"لا أعرف لماذا تأخذ الأشجار التي في شوارعنا حصتها من المكان من حصة الرصيف وليس من حصة الشارع. وعلى الرغم من حاجتنا إلى الشوارع وسعتها في حياتنا المعاصرة، فإنَّ حاجتنا إلى الأرصفة أشدّ، فمعظم أرصفتنا تعاني من الضيق، ولكنها مع ذلك بتوسع ألف صديق، فمن البسطات إلى التوسعات الدكاكينية وانتهاء بتربع الحاويات على مفارق الأرصفة ستجد ألا مكان لك أنت صديق الأرصفة القديم، بل ولا مكان لغيرك من المشاة. لكن حتى لو كان لك مكان، فإنك ستتنحى للقادم من بعيد، بعد أن تجد عدة سنتيمترات تشكل فراغاً
ما بين سيارتين صافتين لتنزل إلى الشارع وتمشي قليلاً ثم تعاود الصعود إلى رصيفك الضيق. أما بالنسبة للأشجار فلقد أخذت من الرصيف مساحة وقوفها الطويل الأبي الشامخ، لكن كلّ ظلالها مرمية باتجاه السيارات التي تمخر عباب الشارع ليل نهار، فترى السيارات وهي تتنعم في الصيف الكافر بظلال الزيزفون، بينما لا ينوب المشاة سوى الانحناء بسبب أغصان الشجيرات التي تمدّ رؤوسها من البيوت، فترى الماشي مطخِّي وأمره لله، والسيارات ماشية بإذن الله، فتحمد الله على النعم، وعلى الشجر الذي جعلك تتواضع وتنحني، وعلى السيارات المشفطة التي أجبرتك على اختيار الرصيف كملاذ آمن لك ولمشاريعك التنزهية، لا لن تنزل إلى الشارع أبداً وسط هذه الفوضى، لن تنزل إلى الشارع وسط طريقة سير تأكل الأخضر واليابس ممن يمشي بدون سيارة وممن يمشي بسيارة ضعيفة صغيرة، فالشارع للأقوى، والشجرات تظلله وتظلل أبطاله من السائقين، بينما لا يطال الماشين سوى تلمس الحيطان وطلب السترة في زمن الإنترنت، ومع أنَّ المشاة رقيقون مع الشجرات، فأكثر ما يمكن أن يفعله الماشي بها هو أن يحفر اسمه واسم حبيبته، أو الحروف الأولى فقط وبطريقة النحت الفني، بينما تفوت السيارات المسرعة بالأشجار، تهزها بقوة على مبدأ عم بنهز الورد لنشمه، وفي بعض الأحيان إذا كانت الشجرة صغيرة هشة فإنَّ الأخت السيارة تقتلعها من ساقها قلعاً وتترك جذورها تبحث عن أجدادها تحت التراب. أما الباصات فهي مختصة بتكسير أغصان الأشجار العالية كي تقصقص جناحاتها وتقلمها وتشذبها وتهذبها كي تناسب الشارع، فإذا ما كبَّرت الشجرة رأساً وعلا شأن أغصانها في الهواء جاءت الشاحنات وقصت الأغصان العالية، وإذا ما طيلست الشجرة وبقيت كبيرة في زمن الصغار فإنَّ شاحنة بلا نمرة وبلا شوفير وبلا فرام وبلا طولة سيرة ستخلعها من أرضها خلعاً، والحمد لله ما صار شي حديد بحديد معلم، والحمد لله على سلامتك، والعوض بأولادك، وإن شاء الله بنشوفك بالأفراح مرفوع الراس، ومتين الأساس، وحواليك عم يلعبوا الصغار، وخليك عالرصيف حبيبي أحسن ما تدعسك السيارات، وأوعك تمشي مع الزعران وأولاد الحرام، بعدين بينزعوك، وعلى الرزالة بيعلموك، وعلى الصياعة بيعودوك، وببيت خالتك بينيموك، وأنت ما تتعود تنام ألا بتختك، ويا بختك إذا ظبطت أمورك، وكل شي مشي معك تمام."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق