"عندما يموت الشاعر تصبح الصفحات الثقافية أحلى، كيف لا، وقد أصبحت خاصة به ليوم أو يومين أوثلاثة.
النفط والدولار، وما تيسّر في حضرة طويل العمر من ترديده من شعر الشُعَّار، مات في زمن أمير الشعراء، الذي يجلس في حضن طويل العمر، مات في زمن أصبحت الطرقات غير سالكة فيه بسبب تراكم (الشعراء)، ويا حسرتي على الشعر الذي تبهدل وتشرشح على أيدي ردَّاحي هذا الزمان، وتمرمط على أيدي كل من ابتسمت له فتاة، فنشر لخاطر عينيها ألف ديوان وديوان، مات أمير الشعر محمود درويش تحت أجهزة الإنعاش، وشعبه يموت بيد أجهزة العدوان وأجهزة الشقاق، مات في زمن لم يستطع أن يقول فيه كلمته وسط أزيز الرصاص الفلسطيني الفلسطيني، فكان الموت كلمته الأخيرة، وكان الغياب ورقته الأخيرة، وكان الرحيل آخر شؤونه، وكان العالم الآخر مجهولاً جديداً يدخل فيه بكامل أناقته.
مات محمود درويش أنيقاً، أوصى بألا يحاولوا مع قلبه المتعب إذا ما توقف، وأوصى بأن يمنحوه الموت الكريم كما عاش حياته بكرامة، مات بكامل حبره، مات شاعراً، لم تخنه في يوم الكلمات، لم يبحث في يوم عن الكلمات، مات سيداً، فيا سيد الكلمات، ستقوم لذكراك المناسبات، وستفرد لرحلتك الأخيرة الصفحات، وسيهبّ مقلدوك ومستنسخوك ويملؤون الأوراق بحبرهم المسروق من حبرك، وسيتحدثون في غيابك عنك لأول مرة كأصدقاء، وسيتحدث حاسدوك عنك في المجالس، وسيخترع عديمو الموهبة معك الذكريات، فيا سيد الكلمات، ويا سيد الكلمات، ستبكيك الكلمات، وستبكيك سيدة أشعارك، سيدة قلبك، فلسطين، وسيبكيك شاعر شاب يعيش في ركن ما بعيد، وسيردّد الصدى قصائدك، بصوتك الأخّاذ، ونبرتك الساحرة، وبكل ما في وقفتك المتعَبة من كبرياء.
رحلت يا أمير الشعراء، لم يكن عمرك طويلاً، كي نناديك بطويل العمر، ولم تكن من ذوي الحسب والنسب كي نناديك بما تيسر من الألقاب، لكنك كنت شاعراً بل وأميراً للشعر، فناديناك يا أمير الشعر، وكنت عاشقاً من فلسطين، فبكتك كما بكيناك فلسطين.
وداعاً أستاذ محمود."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق