٠٥‏/٠٨‏/٢٠٠٨

عاش الماضي يعيش يعيش


"تتعالى الأصوات عندنا في كلّ مناسبة من أجل تكريم فلان وإجلال فلتان وتعميم فليتان، فترى الصحفيين يصرخون وقد بحت أصواتهم بأن لا ننسى أبا محمود ملك المسرح قبل عشرين عام، وترى الكتّاب يكتبون وقد جفت أقلامهم بأن نتذكر أبا دياب ملك العتابا وزميله أبا دعّاس ملك الربابا. ومن المعروف أن معظم المطالبين بالتكريمات والتشريفات لمن مات يطالبون بذات الوقت بتجريم كل من عليه الضو في هذه الأوقات،

وبتحريم كل ما من شأنه أن يجذب الناس ويلهيهم عن تذكر فلان وفليتان وفلتان والتسبيح بشكرهم على ما قدموه لنا من أيقونات وجواهر وألماسات، ويخطر في بالي كيف كانت المؤسسات عندنا تكرِّم كبار المبدعين عندنا بالسن طبعاً جماعات جماعات، فترى المكرَّمين يصعدون واحداً واحداً ليتسلموا الجلاء من المدير العام وكأنهم تلاميذ، وينتهي الاحتفال فلا تتذكر من المكرمين سوى شوارب المدير العام التي تكرَّمت وكرَّمت من بعد إذنها القامات الإبداعية والهامات الفنية، ويخطر في بالك خاطر أخطر من ذاك، وتقول هل يحتاج المبدع إلى التذكير به؟!.. هل يحتاج الفنانون الكبار إلى الكتابة عنهم بأقلام الصغار؟!.. هل المبدع ضعيف إلى هذا الحد الذي يحتاج فيه إلى من يذكِّر به من صغار الكتبة؟!!..ويخطر في بالك خاطر رهيف وتقول هل يقوم أقرباء دستويفسكي بالدبكة على قبره كل عام ليتذكر الناس أنَّ الجريمة والعقاب عمل عظيم وأنَّ الأخوة كارامازوف ملحمة إنسانية؟!!.. هل يقوم ابن خالة عم تشيخوف بالكتابة عنه بالشهر تلات أربع مرات ليعرِّف القراء ببستان الكرز والنورس وقصصه القصيرة والروايات؟!!.. ثم يخطر في بالك خاطر خطير وتقول لماذا عندما يريد بعض الجاعرين شتم شاب حي ما يذكِّرون القراء بالمرحوم وإبداعاته؟!! وتكتمل الصورة عندك، وتقف عند حدك، لأنك إذا استزدتَ بالكلام ستصدم، وأنك إذا صدمتَ ستصدق، وأنك إذا صدقت ستُزعل، ولكنك ستردد ببراءة الأطفال ما مفاده أن الكتاب العظيم يدافع عن نفسه، وأنَّ الإنجاز العظيم يدافع عن وجوده، وأنَّ المرحوم ألله يرحم تراب ترابه وتراب أمواته لو كان عظيماً لما نسيته الأجيال، وأنَّ العذر ليس في الجمهور بل في المرحوم، وأنَّ العطل ليس من الغسالة بل من المسحوق، ها هو بعد أن مات يتابع مشوار الوجود بكل جدارة، ويكرَّم كل يوم ، بل وهناك من يطالب بتدريس إبداعاته للأجيال المتخلفة كي تتطور، وتقول في نفسك التي سيأكلها الكتّاب بلا ملح أنو ليش وضع الأجيال عنا هيك، ليش التخلف شغال على أبو موزة، لو كان عنا كاتب متل دستويفسكي أو تشيخوف أو بلزاك أو بريخت أو كازانتزاكي.. فهل هكذا كان سيكون وضع الأجيال؟!!.. في عصر التكريمات.. ستقول إنَّ إكرام الميت دفنه..... ولا مانع من الدبكة حول القبر وبعض الحفلات، مو مشان شي بس مشان يزهزه بقبره يقبر عضامي شو كان كتّيب، وأسفي على مجتمع يجلس في حضرة المولودين الجدد وهو يتأسف على الأموات، الفاتحة."

ليست هناك تعليقات: