١٢‏/٠٨‏/٢٠٠٨

محمود درويش والناس

مات محمود درويش، لا لم يمت محمود درويش، إنه في العناية المشددة، بين تأكيد الخبرفي قناة الجزيرة ونفيه في قناة العربية لأكثر من ساعة إيحاء بأن موت الشاعر كان يحقق رغبة بحدث جلل وشهيد فلسطيني جديد، وبين رغبة في أن يبقى الشاعر ويبقى المثقف ويبقى الرمز على قيد الحياة، ربما لم تتقصد القناتان ذلك، فهما مجرد وسيلتين إعلاميتين تبحثان عن الحقيقة والسبق،

فالحقيقة ضرورية للإعلام، والسبق ضروري أيضاً، فكان السبقُ.. سبقاً تشاركت به وكالات الأنباء جميعاً، بما فيها الجزيرة والعربية، لكن من أين أتت الأخبار؛ من غرف العمليات من الأطباء، طبيب يريده أن يموت لأنه الرمز الوحيد الباقي على قيد الحياة، وهذا الطبيب ينقسم إلى قسمين، قسم فلسطيني جديد يريد أن تنتهي الرموز القديمة إلى الأبد، وقسم فلسطيني جديد أيضاً يحتاج إلى حدث كي يتنبه المقاتلون الفلسطينيون إلى ما حدث!..
أما الطبيب الآخر، فيريد للرمز أن يعيش، أن يكمل ما بدأ، فالساحة أضحت خاوية من الكبار، و'يلّي ضرب ضرب ويلّي هرب هرب، بس المشكلة ما حدا عم يهرب، والمشكلة أنو الكل عم يضرب'، وما بين المشكلتين، كان لابد للرمز أن يقول كلمته، ولأن محمود درويش لم يقل كلمته، تعبت روحه قليلاً، وتعبت الأوردة مثلما تعبت قبلها الشرايين، ولأن الشاعر لم يجد ما يكتبه بهذا الصدد، فقد قال كلمته الأخيرة على مضض، مدددد......مدد..
ولقد قال لي صديقي الشاعر الشاب أحمد قصار والذي يحظى بعائلة كبيرة من الأشقاء غير المهتمين بالثقافة، إنهم صمتوا في البيت للمرة الأولى من أجل شقيقهم الشاعر الحزين بسبب رحيل الشاعر، وقد قالت لنا الأخبار، إن الإخوة نظروا إلى الشاعر نظرة التعاطف، بل وحاولوا أن يظهروا الاهتمام، ثم إنهم بدأوا فعلاً بالاهتمام وصاروا ينقلون إليه آخر الأخبار، حتى أن أمه اللطيفة فتحت الباب على الشاعر الصغير النائم، ومضت نحو سريره، لم تكن معتادة أن توقظه قبل الأوان، إلا لأمر هام وهي الأميّة العجوز، نقرته بلطف حتى فتح عينيه، نظرت إلى عينيه بأسف لأنها أيقظته، وبنبرة خطرة.. أخبرته، وقالت وهي تنقل الخبر العاجل بوضوح تام: ' بتعرف يامو شو قال محمود درويش قبل ما يموت؟!.. قال: 'دعوني أنام بسلام..'
فهل تعب الشعراء، هل ولّى زمن الشاعر، هل لم تعد هناك قيمة للمشاعر، هل أصبح الأمر كله حسابا بحساب، هل أضحت الحياة بالأرقام، هل اختفت من حياتنا لغة الشعر وصوت الموسيقا وريشة الفنان، هل أصبحنا بدائيين إلى هذه الدرجة، هل لم يعد هناك حقا للأناقة والجمال وللحق، وللحرية وللعقل، مكان؟! هل أصبح صوت الرصاص أقوى؟.. هل استعرنا من التطور البشري تكنولوجيا الدمار هل نسينا القضية؟! هل أصبحت موضة الثورة قديمة، هل أصبحت حياتنا أمرا واقعا، حتى رضينا بها ولم نرض بمن معنا في المواجع.. هل بدَّلنا المواقع حتى أصبح الشاعر يريد أن ينسحب من الحياة؟!"

ليست هناك تعليقات: