"هو أول مسرح تعرفتُ عليه في حياتي، مسرح محمود جبر، وكان ذلك من خلال تقليد بعرض التلفزيون لإحدى مسرحياته في سهرة الخميس، وكان التلفزيون وقتها يعرض المسلسلات بطريقة مختلفة عن عروض اليوم، فقد كان عرض المسلسل أسبوعياً، وكان لكل يوم من الأيام مسلسله الخاص من تبع التلات عشر حلقة، ومن الطبيعي أن ينتظر الناس المسلسلات وما سيجري من أحداث لاحقة أسبوعاً كاملاً من التوقع والإثارة والتشويق،
وكانت النقاشات الجماعية تدور لأسبوع عن الأحداث المتوقعة لهذا المسلسل أو ذاك. وضمن هذه الأجواء التلفزيونية المنافسة، كان مسرح محمود جبر يشكل لعرضه يوم الخميس على الشاشة جمهوراً طاغياً يلاحقه أينما كان، وأقول يلاحقه وذلك لأنو مو كل الناس كان عندها تلفزيونات، فكنتَ تجد العائلات من الجيران والأقارب تجتمع في بيت تلفزيوني كل خميس وتتسمّر أمام مسرح محمود جبر، فكانت معجزة محمود جبر التي نقلت الطقس الجماعي لحضور المسرح إلى التلفزيون. كان ابن عمتي بديع من عشاق محمود جبر، وهو الطبيب المتخرج حديثاً والمسحوب على الجيش وكانت خدمته في حلب وقتها حيث نسكن، فتراه يأخذ إجازته الأسبوعية ليلة الخميس ويأتينا ملهوفاً ليتفرج على مسرحية محمود جبر، وكنا ننتظر معه، أنا وأمي وأبي وأخواتي البنات ألله يستر على أخواتكم، ونجلس حول التلفزيون في وضعيات مريحة قدر الإمكان، وهذه القدر الإمكان ليست كلمة عبثية مجانية، فمقاعد المسرح في بيتنا لم تكن مضمونة دائماً، أبي له مقعده المرقَّم باسمه، وهو لا يسمح لأيّ كان منا أن يتدحوش بجانبه من باب الدلع والملع والمياعة، كانت مساحته أريح مساحة، وموقعه أحسن موقع مواجه التلفزيون، وأمي لديها مقعدها الخاص أيضاً لكنه مقعد مزاجي متحرك متغيّر حسب الظروف، فإذا ما كانت زعلانة من أبي وآخدة على خاطرها منه بسبب إحدى تعفيساته الرجالية فإنها تجلس بعيداً عنه، أما إذا كانت خوش بوش معه فإنها تجلس عنه أيضاً بسبب تضايقه من دخان سيجارتها، وكان الضحك في حالات حردها ممنوعاً عندها، فهي أستاذة في فن الوجوم والغضب الصامت، اما ابن عمتي بديع فقد كان مقعده بعيداً عن أبي بسبب التدخين ولكنه مقعد محجوز باسمه وذو إطلالة مميزة على التلفزيون تبع بيتنا، وهناك مقاعد محجوزة للضيوف الطارئين ممن انقطعت الكهرباء في حارتهم فدخلوا على ألله وعلينا كي يتفرجوا على مسرحية محمود جبر عندنا، أما أنا وأخواتي فكنا نتسابق للجلوس في الأماكن الزائدة، فكان كل منا يحجز مكانه قبل العرض بربع ساعة على الأقل، وياما علقت بيناتنا يا شباب فكان دخول أبي يجعلنا نفضّ الاشتباك بسرعة خوفاً من إنزال عقوبة الحرمان من الفرجة التي أكلتها ذات يوم وذقت مرارتها، فقد كنتُ ملتصقاً بباب الصالون وحيداً وفي الظلام بينما الجميع يتفرجون ويضحكون، كنتُ أحاول سماع شيء من الحوار على الأقل لكن دون جدوى فقد كان صوت الضحك هو الطاغي، ضحك من المسرح، ضحك من البيت، وكنتُ أضحك ببلاهة كي أقاوم رغبتي بالبكاء، لم أكن أريد أن تنزل دموعي، وقاومتُ دموعي ليلتها، بينما كانت أمي أيام حردها تقاوم الضحك، ولكنها كانت تفشل، فكانت تسحب منديلها وتغطي به فمها وتضحك فنرى عينيها اللامعتين الجميلتين تفضحان ضحكة أعماقها التي تغطيها بمنديل.
شكراً محمود جبر فلقد جمعتنا معاً، وأسعدتنا معاً، ودخلت إلى بيوتنا وقلوبنا، شكراً لأنك أضحكت أمي الزعلانة، أما دموعي التي قاومتها تلك الليلة وهم يحرمونني منك لليلة فسأستدعيها اليوم وأنا أسمع نبأ رحيلكَ، فلقد كنتَ فناناً مؤمناً، وكنتَ نبيلاً وصامتاً وراضياً، فإلى رحمته تعالى بإذن الله العلي العظيم."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق