"هبطنا في مطار هيثرو ويا ليتنا ما هبطنا يا معلم، ما عاد فيك تدخن، وين ما رحت ممنوع التدخين، في المترو ممنوع، في المدرسة ممنوع، في الجامعة ممنوع، في المطعم ممنوع، في البارات حتى ممنوع، وفي الفنادق ممنوع، بل وممنوع في الغرف أيضاً، لم يعد هناك مكان تحت السقف في بريطانيا يمكنك أن تدخن فيه، ممنوع، !!
وتدمَّرت طبعاً، وتذكرتُ صديقي العراقي الذي قال لي إنه مُدَمَّر في المنفى، وعرفتُ الآن لماذا هومدمَّر، فهو يبحث عن مكان يدخن فيه بالتأكيد، وبالتأكيد إنه لم ولن يعثر على ذلك المكان، بل وإن ما دمّرني أكتر الشي هو أنني لن استطيع أن أضع سيكارتي بين أصابعي وآخذ هديك السحبة، وأنفخ هديك النفخة في وجه محدّثي قبل أن أنطق جواهري، لا .. ليس بإمكاني ممارسة هذا الطقس، كما أنه ليس بإمكاني أن أضيِّف محدثي سيكارة في عزّ حديثه مشتتاً انتباهه، ومنفّساً لحماسه، كما فعل الأشقاء الإماراتيون بمنتخبنا عندما قطعوا عليه الكهربا، وقالوا له يا مرحبا، وهو ربحان بهدفين، وطاحش ليحط التالت، المهم مالنا بهداك الحديث اللي بيهز البدن، وخلونا بموضوعنا، فالجماعة كافحوا التدخين وقدروا ينزّلوا من حجم استهلاكه في بلادهم، وعلى الرغم من أنني مدخن عجيب، فلقد لم أنزعج، ولقد لم أتضايق، ولقد ذكرتكِ والرماح نواهل مني، وتذكرتُ أيامنا في الأندلس وليالينا، وتذكرتُ مسك دارينا، ولكن أحد من الإنكليز لم يدارينا، وبقيت ممنوعاً من التدخين، وصارت حياتنا نحن المدخنين صعبة، وأصبحنا نستأذن لنطلع ندخن سيكارة برة بعز الحديث، وخاصة إذا ما كان عاجبنا، كما أننا حتى لو كنا معجبين بالحديث وبالمحدثين فلا بدَّ من التدخين، سوسة يا أخي سوسة، لكن بيني وبينكم فلقد تعوَّدنا، وفي السيارات جلسنا دون تدخين، وفي المطاعم أكلنا دون تدخين، وتحت السقوف حتى التوتياء منها جلسنا دون تدخين، وشاهدنا المدخنين أمام أبواب المطاعم يدخنون، وأمام أبواب الفنادق يدخنون، وأمام أبواب الجيران يدخنون، وأمام أبواب السفارات يدخنون، ثم يعودون إلى أماكنهم، هادئين وادعين طيّبين وغير مدخنين، وللجو غير ملوّثين، ولرئات الآخرين غير منتهكين، ولعيونهم غير عامين، ولأنفاسهم غير حارقين، فالتدخين السلبي أثبت أنه موجود، وأن الزلمة اللي قاعد مع مدخن بيدخن معه بكل تأكيد، وبالتالي وبكل تأكيد سيمرض بالأمراض إياها تبع الدخان والتلوُّث والمازوت والبنزين، صحيح بالمناسبة وعلى اعتبار أنو أنا بالغربة بلندن شو أخبار المازوت، إن شاء الله ما يكون غلي كمان، وشو مشان البنزين، إن شاء الله ما يكون علي بهاليومين، وشو مشان الدخان، وشو مشان حزام الأمان، وأمان يا لاللي أمان.
وخرجنا من لندن إلى الأرياف، وشاهدنا على مرامي الأنظار، ذلك الخَضار، وتلك الأشجار، وتذكرتُ عيد الشجرة، وتذكرتُ كم واحدة زرعتُ بيدي، وتذكرتُ أنني لم أسأل عن تلك الشجرات من تلك الأيام، لأنو السؤال لغير الله مذلة، وبالشكر تدوم النعم، فهل نحن من الشاكرين، ومن المفيد أن نقول إن الشكر ليس بالقول، وإنما بالفعل، فهل نحن كذلك حقاً"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق