١٠‏/٠٧‏/٢٠٠٨

ليدبوري يا ابن الحلال


"فتنا بالحيط بعد ما رجعنا إلى لندن قادمين من ليدبوري، إلى درجة أنَّنا كتبنا اسمها لوندبوري كدليل على أنَّ لندن كان لها الحضور القوي في زيارتنا الشعرية تلك، ومشيتُ في سوهو على أمل أن أضيع كما ضاع فيها كولن ولسن من قبلي، ولكنني لم أضِع، كانت شوارع لندن مليئة بالإشارات التي تأخذك من عنوان إلى عنوان .
بسلاسة متناهية النظير، بل وإنك إذا قرَّرت أن لا تعذِّب حالك وتقرأ اللافتات فما عليك سوى أن تطلب من أيِّ شخص تصادفه أن يدلَّك على الطريق، عندها لن يفلتك حتى يتأكَّد مئة في المئة أنك فهمت عليه، وأنك بالتالي ستصل إلى جغرافيتك المنشودة ومكانك المقصود، يفعلون ذلك مع كل الغرباء، يفعلون ذلك بلطف وبكل سرور، وعندما تشكرهم فإنهم يردُّون لك الشكر بابتسامة خجولة لا يمكن تفسيرها في كثير من الأحيان بغير أنَّ البريطانيين شربوا فنَّ التعامل مع الآخر مع حليب أمهاتهم الله يحفظهن لهم ويطول بأعمارهن، لأنك لن تشاهد أجمل من الأمهات والجدات البريطانيات، لطيفات، وِنسات، ومحبّات للمعرفة، ومحترمات للثقافة، ومشجّعات للشلاليف الصغار على الإبداع، وكان أن حضر الكثير منهن أمسياتنا في ليدبوري ولندن، وكم كان ساحراً تفاعلهن معنا، كم كان مدهشاً حبهن للاطلاع على ثقافتنا ومجتمعنا، ولا يختلف الجدُّو البريطاني عن التيتا البريطانية، بل إنَّ جدُّو يصطحب حفيده معه إلى الأمسية مطرنباً على تيتا في حبها للثقافة، لكن تيتا لا تمرِّق له هذه الحركات وتأمره أن يترك الحفيد في البيت لأنو بكير عليه السهر، وما بين جدُّو وتيتا ترى الحفيد وهو يتعلَّم منهما العادات البريطانية العريقة، ويحافظ على فنون النبلاء في التعامل مع الأقارب والأصدقاء والجيران والغرباء، تعامل يقول لك إنك في بريطانيا الحرية، بريطانيا التي نصبت تمثالاً للمناضل الجنوب أفريقي نلسون مانديلا في إحدى أهم ساحات لندن على الرغم من أنه كان مناضلاً ضدَّها في استعمارها لبلاده، لم تتوانَ الرفعة البريطانية عن ردِّ الجميل لمانديلا الذي دخل إلى لندن لا فاتحاً ولا غازياً، دخلها مسامحاً، ومادَّاً كفه لمصافحة بريطانيا بعد زوال استعمارها عن بلاده، وبعد هزيمة العنصرية بالسلم فيما عجزت عنه مئات الحروب، وكأنك تستعيد ذكرى غاندي أبي السلام ورمزه، وللمصادفة أنه كان مناضلاً ضدَّ الاستعمار البريطاني للهند أيضاً، وللمصادفة أنه اختار درب السلام وانتصر، وللمصادفة أنه كسب احترام الشعب البريطاني، وللمصادفة أنه شأنه شأن مانديلا رمز من رموز بريطانيا، فيا للغرابة، ويا لقوة المجتمع عندما يريد أن يعطي رأيه، ويا للرقي عندما تنسى الشعوب الماضي البغيض وتلتفت إلى الحاضر وتتواصل مع المستقبل عبر ثقافة السلام، لا.. لم تكن تلك البلاد لتذكِّرني بالاستعمار البريطاني، فالمجتمع البريطاني الأصيل استطاع أن يجعل من الماضي الاستعماري مجرَّد كلمات في كتب لمحبي الاطلاع، وحافظ على ما جعل من بريطانيا بلاد شكسبير وكيتس وييتس ومانشستر يونايتد وليفربول وعد إذا بدَّك تعد من هون للصبح. ما شاء الله. ليدبوري .. اسمها ليدبوري .. تلك المدينة الصغيرة التي تعلَّمت منها أكبر الأشياء"

ليست هناك تعليقات: