٢١‏/١٠‏/٢٠٠٨

كاشف ومكشوف

لم يطل بنا الزمن الذي أصبحنا فيه كلنا نملك جهاز الكاشف على تليفوناتنا الأرضية، وهذا التليفون الأرضي نوع من أنواع الاتصال يمكن أن يتحوَّل بين لحظة وضحاها إلى نوع من أنواع الإزعاج وهزِّ البدن وعضِّ الأصابع وشدِّ الشعر وأكل أطراف الشفايف وقرض الأظافر وأكل الهوى، ونوع من أنواع الهوى، لكن الهوى الثقيل الغليظ الذي يدخل عبر الجدران ليرغم الناس على الاعتراف بوجوده حتى لو كان من نوع الأكل هوى، فكانت تلك المكالمات المزعجة من ذلك المجهول الغريب الذي خيَّم كظلٍّ عليك وعلى عائلتك فأصبحتم متعايشين معه لأيام وشهور بل وقلْ لسنوات، أولم يمر في حياتك ذلك الشخص ذات يوم؟!!! ألا تتذكَّر كيف كنتم تقفزون من أماكنكم منزعجين بعد كل اتصال غليظ منه، وكيف كنت تبهدله وتهينه، وكيف كان ببرود يتلقف إهاناتك، وكان يقبل كل ما تقولونه له، وكان يضحك من كل ما توجهونه له، لكنه فقط كان يرفض الكشف عن هويته، لأنَّ في غموضه قوته، في تستُّره جبروته، في انكماشه وانعزاله واختبائه حمايته لنفسه، إلى أن تعوَّدتَ عليه، وعلى فصوله، وتعوَّدت عائلتك عليه، فصرتَ تفصل الفيش قبل النوم، وألغيت التليفون من حياتك وأنت نائم، لأنَّه لا أحد سوى الطوارئ أبعدها الله عنك، وسوى الغليظ، فإذا كانت واقفة على سماع أمر طارئ وهو دائماً سيئ لدينا، لأنَّ المتصل سيكون واحداً من أصدقائك المقطوعين أو المذهولين في هذه اللحظة بسبب حدَثٍ جلل ما، وكلهم من النوع الملهوف المحتاج إلى عملية إغاثة، المغيثون لا يتَّصلون في منتصفات الليالي، عليك أنت أن تتَّصل بهم أصلاً، والأفضل في نصاص الليالي، لا توجد لدينا مفاجآت سارة أصلاً تصلنا عبر تليفون في نصاص الليالي، لذلك ألله أغنانا عن الطوارئ، بتتأجل لبكرة، بلاها هالقومة من الفرشة بعز دين الغفوة الفجرية لإغاثة الملهوف ونجدة المقطوع، وفي الصباح ما إن تستيقظ وتضع فيش التليفون متلهفاً للتواصل مع البشرية حتى يرنّ فترفع السماعة فإذا به الغليظ، لقد بدأ ينظِّم وقته على أوقات نومكم، وبات لا يسهر كي يوقظكم، بل أصبح إنساناً نظامياً ينام الساعة الواحدة بالليل ويستيقظ في الصباح الماكر ويشرب الحليب وينظِّف أسنانه مع أنها لن تظهر لكم على التليفون وهو يضحك، وستتحدَّث معه إذا كنت رايقاً وتتغالظ مع غلاظاته، أو تغلق فور سماع صوته بحركة أوتوماتيكية، فيعيد الكرة، وتغلق في كل مرة، وببرود تتصرَّف، حتى بهدوء يتقردف، وعن نفَسِكَ يترجل، بعد أن امتطى صهوتها لأعوام، لكن الكاشف جاء ودمَّره، هزمه، وإلى التخفي المتعب شلَفَهُ، وإلى الكولبات رماه، حتى الكولبات ملّت منه وأغلقت أبوابها، بل إنها اختفت لأنها لم تعد من الضرورات على ما يعتقد المسؤولون عن مدينتنا، وبات المزعج الخفي الذي يبعبص في حياة الآخرين رمزاً من رموز الماضي، بفضل الكاشف العجيب، لكن الكاشف لم يعد مهماً الآن، لأنَّ التغالظ وإزعاج الآخرين بات يُلعب هاليومين عالمكشوف، حتى الكاشف ما عاد يخوِّف، لأنَّ عِرق الحياء قد طقّ.

ليست هناك تعليقات: