٠٨‏/١٢‏/٢٠٠٦

الشاعر سينتحر

"تمنيتُ أن أصاب بالسرطان، أولاً لأن الكلمة أعجبتني، وثانياً كي يشفق أهلي وأصدقائي وأقاربي عليّ ويندموا على كل ما اقترفوه بحقي من جرائم جسدية ومعنوية ومادية. فها هي الحبيبة التي رفضت حبي وطردتني شر طردة من حياتها وشارع بيتها مستعينة بأولاد حارتها الأشاوس تأتي إلي جاثية بعد أن علمت أن موتي قادم لا محالة.. وهي تبكي وتصارحني بحبها وندمها على رفضها لي، ولكنني سأبتسم بحزن، وأقول لها ودمع العين يسبقني: 'لا.. انسيني أنا ميت ولا ذنب لكِ كي تترملي باكراً'. عندها ستنهمر الدموع من عينيها بسخاء، وستبدأ بالنحيب : 'لم ولن أحب غيرك.. لا تمت أرجوك'. وبهدوء شديد سأداعب شعرها بكفي وأنا أنظر إلى الأفق وأقول: 'الحي أفضل من الميت.. ابحثي عن حبكِ بين الأحياء'. وستزداد فتاتي عويلاً حتى تنهار بين قدمي..

وسوف يشعر أبناء عمتي أنهم كانوا حقراء في التعامل معي عندما رفضوا انضمامي إلى فرقتهم الموسيقية كمغنٍ، بل شبهوا صوتي بنهيق الحمار، وسوف يأتون إلي مع آلاتهم الموسيقية متضرعين أن أسجل شريطاً معهم فوق إحدى أشرطة أم كلثوم، ولكنني سأعتذر بحزن مشوب بالكبرياء وأقول: 'أنا أرفض منطق الشفقة في الفن'..

وسأستمع إلى حديث نادم بين أبي وأمي في غرفة النوم وهما يبكيان، فأمي تندب وتشد شعرها وهي تقول: 'آخ.. لماذا لم أتركه يسافر إلى أوروبا كي يدرس السينما..؟' بينما سيضرب أبي رأسه بالجدار باكياً وهو يقول : 'آخ.. لماذا لم أعطه المئة ليرة.. لماذا؟'..

ثم نسيت كلمة السرطان، وأعجبت بفكرة الانتحار.. وفكرت في محاولة انتحار فاشلة تودي بي إلى المشفى، وهناك سأكون في غيبوبة، ولكني سأسمع كل الأحاديث التي تدور حولي. فها هو مدير مدرستنا يعدد مآثري ومناقبي على الرغم من أنه لم يكن يعلن بداية اليوم الدراسي قبل أن يصفعني. وسأسمع عمي الذي طردني من بيته كي لا أفسد ابنه المثالي يشيد بذكائي ويصفع ابنه المثالي الذي يبكي بجانبه لا حزناً علي بل بسبب الصفعة.. ولكي يكون حجم الألم والندم أكبر سأوقت موعد الانتحار بعد فاصل من الضرب المروع بحقي من قبل أبي وأمي معاً، كما أن الشعراء الذين سخروا من شعري سيطأطئون أمام جسدي الواهن وهم يرددون في دواخلهم: 'إنه شاعر حقيقي احتج على واقعه بالانتحار'، وسيعيدون النظر في قصائدي التي شتموها سابقاً، ويعتبرونها تحفة فنية رامبوية الطابع نسبة للشاعر الفرنسي آرثر رامبو.

وقد سمعت عن طالب في كلية الطب انتحر أثناء قيامه برحلة ترفيهية مع زملائه من أجل فتاة كان يحبها، وأعجبت به، ثم أعجبت بالشاعر خليل حاوي الذي انتحر احتجاجاً على الصمت العربي عام 1982 تجاه حصار بيروت، ومع ذلك فلم أجرؤ على الانتحار إلا في خيالي، وفجأة اتصل الصحفي وليد اسعيد، وطلب مني أن أحضر إلى بيت حكم البابا، وهو شاعر أكبر مني بأربع سنوات، وعندما دخلت وجدت حكم جالساً ووليد وإياد الغفري يتناقشون في موضوع ساخن، كان حكم مصراً على الانتحار، وكانا يمنعانه بخوف متعقل، وكان يشرح لهم كل مرة عن الطريقة التي سينتحر بها، فتارة سيطعن نفسه بسكين المطبخ لينهض الاثنان ويحتجان : 'لا تحكي هيك يا حكم' أو 'بنعرفك بتحب الحياة يا حكم'، وتارة أخرى سيتناول علبة من الحبوب المنومة وينام على أنغام 'ضربات القدر' لبيتهوفن خاصة أنه اهتدى إلى الموسيقى الكلاسيكية مؤخراً، وتارة سيرمي بنفسه من الطابق الرابع إلى محطة البنزين أسفل منزله، واحتياطاً سيحمل سيكارة مشتعلة في يده، وكان الاثنان قد وصلا إلى مرحلة البكاء على إصرار هذا الصديق المحب للحياة على الانتحار بينما كنت واقفاً أمام باب البراد الجاثم في الغرفة الوحيدة التي سُمّيتْ عبثاً بمنزل، آكل ما تيسر من الأطعمة التي تحضرها عمة الفقيد القادم..

وفجأة وجه حكم حديثه إلي: 'سأسألك لا كصديق وإنما كشاعر'.. وبعد أن شرح أسبابه الغرامية سألني : 'هل أنتحر أم لا؟'. نظر الصديقان إلي وهما ينتظران مني أن أنقذ الشاعر من الغياب، بينما فكرت أنا المتشرد الشاعر البوهيمي الذي لا سقف يؤويه في العاصمة على اعتبار أنني من أدباء الأقاليم عن سبب اتصالهم بي، وحدست أنهما سيطلبان مني الإقامة عنده كي أمنعه من الانتحار، فأجبته وفمي مملوء بالكوسا محشي الذي طبخته عمته: 'لو كنت مكانك لانتحرت'..

وهكذا أصبحتُ مقيماً في غرفة حكم بصفة حارس على حياة شاعر قد تفقده الأجيال متنعماً وحدي في العلن بالطبخات المتنوعة التي تحضرها العمة كل يوم لأن حكم كان يأكل في غيابي كي لا تتشوه صورته أمامي. وعندما أحسست بالخطر من تناقص الطعام اللذيذ بدأت أضغط عليه كي يعترف بأنه يأكل سراً، ولكنه كان يرفض الاعتراف، فقلت له إنني سأتأكد من كميات الطعام قبل خروجي لأعرف إذا كان يأكل أم لا. وبالفعل بدأ الشاعر الفقيد يقتات سندويش الشاورما كي يوهمني بأنه لا يأكل بينما كنت أهز رأسي بأسف مصطنع وأنا أنهره كي يأكل وأتلذذ وحدي بنعمة الطبخ المفقودة في عالم الشعراء. كان يحدثني عن الطرق التي سيستخدمها في الانتحار، وكنت أتثاءب وأنا غير مبال بما سيفعله من أهوال بنفسه أثناء نومي، والأنكى من ذلك أنني كنت أتركه وحيداً طول النهار وأعود ليلاً وأنا ثمل لا أحتاج إلى أكثر من جملتين انتحاريتين منه حتى أكون غائصاً في عالم الأحلام.

بدأ حكم يشتاق إلى السهر في الخارج، فخرج بفتوى عظيمة عندما قال لي ولإياد إنه يريد أن يسهر في مطعم قصر البللور لأن ساعة الصفر قد حانت وعليه أن يودع هذا المكان الجميل. وهناك أكل المنتحر ثلاث سمكات وحده وشرب بطحتي عرق وهو يتحدث عن انتحاره بينما كانت أرواح الأسماك تئنّ بين أضراسه المتوحشة. ثم طلب الحساب ونهرنا كي لا ندفع بشهامة غير متوقعة، ودفع الإكراميات السخية للنادلين، فدغدغني إحساس للمرة الأولى بأن هذه الأفعال هي أفعال شخص سينتحر فعلاً..

وبعد أيام ضجر حكم مني بسبب لامبالاتي أولاً وبانفرادي بالطعام ثانياً خاصة أنه مل من سندويش الشاورما السري، فأعلن أنه اهتدى إلى الطريقة المثالية للانتحار، وهي مكونة من مرحلتين، المرحلة الأولى سيتناول فيها الحبوب المنومة ويقفل باب الغرفة والنوافذ بإحكام شديد، أما المرحلة الثانية، فسيفتح فيها اسطوانة الغاز وينام بسلام مختنقاً بالغاز. فكرت للحظة، وأصبت بالرعب من أن أنام ولا أستيقظ إذا ما فعل ذلك.. فانقلب نعيمي جحيماً،وصرت متيقظاً لا أنام أبداً حتى ينام، وبدأت أستيقظ رعباً عند كل حركة يقوم بها جسده النائم، وكان يوقظني باكراً إمعاناً في الانتقام مني حتى نسينا معاً موضوع الانتحار، ومازلت أشاهد حكم إلى الآن وقد أصيب بمرض السكري، فتراه لا يشرب إلا الدايت كولا، ولا يأكل الدهون والشحوم متقيداً بصرامة بتعليمات الطبيب خوفاً من ارتفاع السكري، ما زال حياً يرزق.. ويتحدث على الموبايل."

٠٣‏/٠٨‏/٢٠٠٦

لا أريدك ياحرية


"لن أترككِ يا بلادي
فلا تخافي
ولن آتيك أيتها المدن الحرة
فلا تخافي أيضا
لا تدققوا في جواز سفري
يا موظفي السفارات الفخمة
فأنا ذاهب لايام ولن ابقى عندكم
لأنعم بالحرية
لن تغريني النظافة في الشوارع
ولا الأنظمة المدهشة
لن يبقيني راتب البطالة
ولا شهادات الضمان الصحي
ولا مستقبل الأطفال المشرق
لن تأسرني حرية الرأي
ولن تعرقل الصحافة الحرة
مسيرتي نحو المطار
لن تثنيني قوانين احترام الفرد
عن العودة
فاعطني الفيزا أيها الموظف
لأنني لن أمكث في بلادك لأكثرمن أيام
فأنا ضيف
ضيف على حريتك
ضيف على صحافتك الحرة
ضيف على نظافة شوارعك
ضيف على كل ماصنعته يداك وأيادي أجدادك
وسأشتاق...
سأشتاق إلى كبتي الذي صنعته مخيلتي المريضة
إلى قضبان السجون التي صنعها أجدادي
واعتنيتُ بها طيلة حياتي
سأشتاق إلى الحزب الواحد
الذي دعمتُه بصمتي
ووسّعتُ قواعده بخوفي الجليل
أحبكِ يا بلادي
أحبُّ هواءك الملوث الذي اخترعه أقربائي وجيراني
وجمّلته بدخان سيجارتي ومدخنة الميكروباص الذي يقلّني
أحبُّ أنهاركِ القذرة التي رميت فيها أكياس الزبالة السوداء
وموظفي دوائرك الذين وضعتُ لهم نقود الرشوة في أوراقي
أعشق صحافتي التافهة التي كتبتُ فيها مرارا
وتلفزيوننا الممل الذي ظهرتُ على شاشاته سعيداً وفخوراً
أعشقُ تماثيل الرؤساء التي نحتها أصدقائي النحاتين
وأقوالَهم المأثورة التي يرددها زملائي الصحفيين
أعشقُ المسؤولين الفاسدين الذين أمتدحهم كلما التقيتهم
وأموت عشقاً بالشكل الفريد للحرية وقد داستها البساطير
التي لمّعتها بنفسي
أحبكِ يا بلادي
لأنك بلادي أنا
أحبكِ يا تعاستي
لأنك تعاستي أنا
لا أريدكِ أيتها الحرية
لا أريدكِ
الحرية لمن يصنعونها
وليست للضيوف"

١٣‏/٠٥‏/٢٠٠٦

المـريـدان

لم يكن لديّ ما أفعله في حلب سوى الجلوس في بيتي، وهو عبارة عن شقة في الطابق الأرضي اشتراها أبي كي أكون قربهم، وكانت الأطعمة تصلني من الطابق الأول حيث يقطن أهلي، وفي ذروة الملل والضجر طرق بابي شابان معجبان بشعري وبشخصيتي، أحدهما يدعى عناد، وهو شاب أسمر متوسط الطول ذو بنية قوية، والثاني يدعى عبودة، وهو بطول عناد، ولكنه مهلهل الجسم, كان عناد يحب أن يكون ممثلاً بينما كان عبودة يحب الشعر، وكانا متفقين على أشياء كثيرة بصمت، فالقهوة يصنعها عناد بينما يتخصص عبودة بصنع الشاي، والفشل في الدراسة أمر مشترك بينهما، فالاثنان لم يتابعا الدراسة، ولكنهما يعملان، عبودة دهان محترم بينما عناد يعمل مع شقيقه كشريك في محل للألبسة ساهم عناد بجدارة في إفلاسه.

كنت مثَلُهما الأعلى في كل شيء، وقد أصبحا مقيمين ببيتي ومسؤولين بشكل مباشر عن حياتي..
صباحاً تأتيني القهوة إلى سريري، فأشربها مع عناد، وما إن ننتهي من ذلك حتى يكون عبودة قد جاء بالفول والحمص. وكانا لا يتحرجان من خدمتي أمام الضيوف، فإذا طلب الضيف القهوة يكون عناد قد جاء بها بلمح البصر، وإذا طلب الشاي يكون عبودة جاهزاً.

في البداية كانا صامتين في أثناء وجود الضيوف، ولكنهما شيئاً فشيئاً أصبحا متحدثين بل وبدآ يدخلان في نقاشات مع أصدقائي الأدباء بشكل محرج بالنسبة إلي، فهما لا يفقهان شيئاً عن المواضيع التي نتحدث بها عادة، ولا علاقة لهما بالثقافة أصلاً إلا إذا اعتبرنا قصائدي ومقالاتي التي قرؤوها ثقافة، ولكن الإحراج بدأ يكبر عندما وضعا نفسيهما في موقع المدافعين عن وجهات نظري في أي موضوع نتحدث به، فكانت الشتائم تنهال على الكاتب الذي يعارضني في أية فكرة، والغريب أن أصدقائي الأدباء كانوا يتقبلون ذلك من هذين الأميين.

كانا يعتبرانني أهم شاعر في العالم وأهم صحفي في العالم، وكانت الكلمة التي أقولها تدون على أوراقهما فوراً كأقوال مأثورة، والمقالة التي تنشر لي تعتبر حدثاً عظيماً، وكان كل الكتاب الذين يزورونني أعداء لي حتى يثبتوا العكس، لذلك كانا يضطهدان ضيوفي دون أن يعيرا انتباهاً لملاحظاتي الدائمة لهما بالتزام التهذيب مع الضيوف، وكانا يستسخفان كل الأسماء التي ترد في حواراتهما مع ضيوفي، فمحمود درويش لا مجال لمقارنته بي، وأدونيس اتصل البارحة ثلاث مرات من فرنسا كي يطمئن على كتاباتي.. إلخ.
كنت أصاب بخجل مريع عندما كانا يكذبان بهذا الشكل الفاضح، وكانا يسكتانني كلما حاولت التدخل، والغريب أن الأدباء كانوا يصدقونهما. وهكذا أصبح محمود درويش يسرق من قصائدي، وأدونيس يتمنى أن يحادثني تلفونياً، ورياض الريس يلح علي لكي أنشر ولو مقالة بسيطة في مجلته اللندنية "الناقد". حتى أن عبودة تجرأ ومسح الأرض بالمتنبي مستنداً إلى قصيدة يقول المتنبي في مطلعها الذي أصبح موضة عند الشعراء: "على قلق كأن الريح تحتي"، وكان عبودة قد حصل على معلومة خطيرة تفّه بها هذا المقطع، واستطاع إقناع عتاولة الثقافة بوجهة نظره التي تقول إن حصان المتنبي كان يدعى "قلق"، وهذا يعني تحطيم المجاز في القصيدة وتحويلها إلى قصيدة في مدح الحصان لا أكثر ولا أقل.

ولكي لا يفارقاني طويلاً بدآ بممارسة عمليهما في بيتي، وصار طبيعياً أن أستيقظ صباحاً لأجد عبودة يلقي محاضرة بذيئة على عمال ورشته، فهذا لم "يحفّ" الباب جيداً، وذاك لم يمعجن الجدار كما يجب، أما عناد، فكنت أستمع إلى مساوماته مع مهربيّ الألبسة وأنا على سريري. في البداية لم أكن أجرؤ على الخروج من غرفتي، ولكن الفضول قادني إلى الصالون لأجد عمال ورشة الدهان بملابسهم الملطخة ينهضون لتحيتي وهم يبدون إعجابهم بمقالاتي وقصائدي وسط ابتسامة فخر واعتزاز من قبل معلمهم عبودة. ومرة أخرى رحب أحد المهربين بي وهو يتلو مقطعاً من شعري.

بعد فترة، بدأ المريدان يغيبان طويلاً عن البيت لأكتشف أنهما أصبحا يجالسان أدباء المدينة في مقهى القصر، بل ويسكران مع كبار الأدباء في النادي العمالي، وبدأ الأدباء بطلبهما على تلفوني الشخصي، فأصبحت فجأة عامل سنترال عندهما، بل إن عبودة كان يغمزني لأقول لأديبٍ كبيرٍ إن عبودة غير موجود، وكذلك كان يفعل عناد مع المسرحيين الكبار، ولكن ولاءهما لي ظل كما هو، وبقيت مثلهما الأعلى والسقف الذي لا يسمحان فيه لنفسيهما بتجاوزه.

كنت مشهوراً بمداخلاتي الساخرة واللاذعة سواء في الأمسيات الأدبية التي يتلوها حوار مفتوح، أو في مهرجانات المسرح التي يُفتح فيها الحوار بعد كل عرض، ولكني في تلك الفترة كنت مصراً على عدم الخروج من المنزل بسبب حالة طويلة من الكآبة لازمتني حتى مجيء المريدين إلى حياتي. وكان من الطبيعي أن أخرج من المنزل لحضور أمسية أدبية لعدة شعراء متوسطي الموهبة رضوخاً لأوامر المُريدَين، وفي أثناء الأمسية كان عبودة يبصق على الأرض ويقول : "تافه"، وعناد يتنحنح بصوت عال عند كل مقطع لا يعجبه. كنت خجلاً منهما خاصة عندما كان الحاضرون ينظرون إليهما باستغراب واستهجان. وما إن بدأ الحوار حتى كان عبودة أول الصاعدين إلى المنبر، واستطاع بلمح البصر أن يجذب الحاضرين إليه بعد أن اعتبر كل ما قيل من شعر هو شعر تافه مفبرك، ثم أشار إلي لأصعد وأقول رأيي، فصعدتُ مرغماً لأن عناد كان قد جرني ودفعني إلى الأمام.

وقبل الصعود إلى المنبر التصق بي عبودة وهمس لي أن أمسح الأرض بجميع الشعراء الذين قرأوا شعرهم، ففعلتُ ما طلب مني بطريقتي الساخرة وسط تصفيق عبودة وعناد، فما كان من الصالة إلا أن تصفق بسبب العدوى.

وبعد أيام، أخذاني إلى مهرجان للمسرح. وفي أثناء العرض المسرحي كان عبودة يصرخ معلقاً شتى أنواع التعليقات لأن العتمة كانت تلف الصالة، فكان يقول للممثل: "مو هيك يا جحش"، وينادي الآخر :"خود إضاءتك يا تيس"، وسط ضحكات الجمهور الذي بدأ يشارك بالتعليق البذيء حتى انقلب العرض إلى فوضى متكاملة، وتحول الممثلون أشباحاً خائفة وخجلة من نفسها، وعندما بدأ الحوار كان عناد وعبودة قد رفعا لي يدي، فرحب بي مدير الندوة، واضطررتُ إلى الصعود بعد توصيات عبودة وعناد بأن أمسّح الأرض بالعرض، وبالفعل قمتُ بالواجب، وكان الجمهور يصفق لي على أثر تصفيق عبودة وعناد بعد كل جملة كنتُ أقولها.

وفي اليوم التالي، سمعت عبودة يتحدث على التلفون مع مخرج مسرحي ويطمئنه بأن "الأستاذ" -أي أنا- سيمتدحه في ندوة اليوم. وعندما اعترضت على طلبه استطاع إقناعي بأن هذا المخرج مسكين ومحارب وأن كلمتي بعد عرضه ستساعده على تجاوز محنه جميعاً، خاصة وأن زوجته مصابة بالسرطان وسوف تموت قريباً، فما المشكلة إذا أفرحناها قليلاً قبل ذلك، وفي أثناء العرض كان عبودة وعناد يطلقان صرخات الإعجاب عند كل مشهد من قبيل "يا سلام" "الله أكبر"، ولما بدأ الحوار رفعا لي يدي بعد أن أشارا إلى امرأة شاحبة جالسة بالقرب منا : "شوفها.. هي زوجته للمخرج.. يا حرام".

نهضتُ مكتئباً من رداءة العرض ومن شكل الزوجة التي ستموت قريباً، وامتدحتُ العرض بشكل لا مثيل له وأنا أسترق النظرات إلى وجه الزوجة الشاحب.

مساءً كان عبودة وعناد قد تركاني وحدي بعد أن سمعت عبودة يحدد موعداً مع المخرج المسرحي نفسه في النادي العمالي ليسكروا مع الفرقة بمناسبة نجاح العرض، وكان عبودة يصر على المخرج ألا ينسى بأن يجلسوا في جناح العائلات، وهذا يعني أن فتيات الفرقة وزوجة المخرج موجودات في السهرة، ولم تنقض ساعتان حتى كان عبودة وعناد قد عادا بصحبة فتاتين من فتيات الفرقة، جلست معهم وشربنا النبيذ، وكان في بالي أن أطبّق واحدة لنفسي، ولكن عبودة طلب مني أن أنهض إلى غرفتي كي أنام لأن عندي لقاء هام جداً مع المخرج جواد الأسدي في الصباح، وما أن سمعت الفتاتان باسم جواد الأسدي حتى طلبتا مني أن أعرفهما عليه، فوعدهما عبودة بذلك بينما كان عناد يجرني إلى غرفتي.

لم أستطع النوم بالطبع وأنا أسمع حفيف القبل والتنهدات من الصالون، وأتخيل كيف يعانق كل منهما فتاته في حين كانت صورة جواد الأسدي وموعده الكاذب ومسرحياته تملأ فضاء غرفتي.

في الصباح، شربنا القهوة مع الفتاتين اللتين تنتظران قدوم جواد الأسدي وعلى جسديهما بعض العلامات من ليلة البارحة، خرج عناد من المنزل، ورنّ التليفون بعد ثلاث دقائق من خروجه، رفع عبود السماعة وبدأ يتحدث: "أهلين جواد.. لا والله الأستاذ موفاضي اليوم.. راسه عم يوجعه.. بكره انشا الله.. على تلفون.. أهلين جواد" . أصيبت الفتاتان بخيبة أمل بينما نظر إلي عبودة وقال: "اطّمن.. قردفت لك اياه". وبعد ثلاث دقائق، كان عناد يدخل ضاحكاً. حاولت مراراً أن أحصل على علاقة مع فتاة من الفتيات الكثر اللواتي يحضرن إلى بيتي دون جدوى، فقد كان عناد يقول لي: "أنت أستاذ كبير. هدول مو من مستواك.. خليهم يشتهوك بس"، وكنت أقتنع بأستذتي بينما كانا يغوصان في بحر من الملذات.

بعد شهر سمعت من الناس أن هناك عرضاً مسرحياً من إخراج عبودة، فمضيتُ إلى حضوره، وكان عناد هو بطل المسرحية. أما باقي الممثلين، فقد تعرفتُ على الفتيات منهن إذ حضرن إلى بيتي مراراً، بينما ظللتُ أشك في معرفتي بالممثلين الذكور حتى تذكرت أنهم عمال ورشة الدهان أنفسهم، وكان الدهان/الممثل منهم إذا التقت نظراته بنظراتي في أثناء أداء دوره يقول لي: "أهلين أستاذ"، ويتابع مونولوغه، وبعد انتهاء العرض، جلس عبودة وعناد وفتاتان ممثلتان إلى المنصة كي يبدأ الحوار.. نظر إلي عبودة، وقال: "تفضل أستاذ.. المكريفون معك".

وجدت نفسي خلف الميكروفون، وكانت نظرات عبودة وعناد تتضرع إلى كي أمتدح عرضهما البائس والتافه، وفعلت ذلك، فشكراني بنظرات ممتنة. وكرّت السبحة بعد ذلك العرض ليقدما أكثر من عشرة عروض مسرحية في ظرف ثلاثة أشهر. وكانا يصوران هذه العروض بثلاث كاميرات فيديو يقوم بعد ذلك أحد أصحاب محلات الفيديو بعمليات المونتاج، ووضع شارة لكل مسرحية تبدأ بـ عناد محمود في.. هاملت.. تأليف شكسبير.. إخراج عبودة عبد الله.. أو عناد محمود في البرجوازي النبيل تأليف موليير.. إخراج عبودة عبد الله.. وكان كل عرض من هذه العروض يعرض ليومين أو ثلاثة أيام لا أكثر بتمويل من المنظمات الشعبية التي ترعى الهواة على الدوام..

بقيتُ ممنوعاً من الخروج حتى بعد زوال كآبتي لأن المريدين كانا يرددان دائماً: "لا تكن شخصاً عاماً.. دع الناس تحلم بمشاهدتك". وكانا يخدمانني كالسابق رغم انشغالهما بالمسرح...

وفي إحدى السهرات الصاخبة، سكر أحد المدعوين، وبدأ بامتداحي وإبداء إعجابه بي لكثرة ما سمع عني على لساني عبودة وعناد، وكان واضحاً أنه يريد أن يكون مريداً جديداً لي بمباركة من عبودة وعناد خاصة أن عبودة قد صرّح بأن هذا المريد الجديد سيقيم "معنا" بالمنزل، إلا أن المريد الجديد لم يكن على مستوى المسؤولية، فقد اقترب من إحدى الفتيات، وبدأ بمعانقتها فوراً وهو يقرأ مقطعاً رومنسياً من شعري.. فما كان من عبودة إلا أن جره من شعره إلى الخارج من دون أن يكترث لحالة الإقياء التي انتابت المريد الجديد. خرج عناد خلف عبودة الذي سحب المريد الجديد إلى الشارع، فخرجت خلفهما تاركاً الفتيات يمسحن السجادة من مخلفات الإقياء.

كان المريد راكعاً على قدمي عبودة وهو يبكي: " أرجوك دعني أدخل وأقدم اعتذاري"، بينما كان عبودة يرفسه دون رحمة على وجهه : "اخرس وانقلع". أما عناد، فكان يمسك المريد الجديد ويصفعه بعنف ويبصق في وجهه وهو يقول له: "أنت بدك تضل حمار.. انقلع"، تدخلت حاسماً وأنا أرمق المُريدَين بغضب، فافلتا المريد الجديد، وأمراه بالعودة إلى المنزل.. أي منزلي.

في اليوم التالي، كان المريد الجديد يقوم بالأعباء المنزلية كلها بينما كان المريدان يضعان قصائدي أمامهما ويكتبان أشياء غامضة على الدفاتر إلى أن سمعت أنهما يطبعان كتاباً شعرياً من تأليف عبودة عبد الله وهو بعنوان "النخيل يذرف التمر". وبعد شهرين كان عناد يتأبط شرائط الفيديو التي تضم التسجيلات الكاملة لأعماله المسرحية، وكذلك كان يفعل عبودة بنسخ أخرى من ذات الشرائط مضيفاً إليها كتابه الشعري والمقالات التي كتبت عنه في الجرائد بأقلام كتاب لم أسمع بهم في حياتي، ويقومان بوداعي. تعانقنا وبكينا من شدة التأثر.. وسافرا، عناد إلى إيطاليا، وعبودة إلى ألمانيا، بعد أن أوصيا المريد الجديد بأن يأخذ باله مني ويقوم على خدمتي كما كانا يفعلان وأفضل.

بقي المريد الجديد عندي على الرغم من الحماقات الكثيرة التي ارتكبها، فقد ضرب أحد النقاد لأنه وجه ملاحظة إلى شعري في المقهى. كما أنه ذهب سكراناً بصحبة أحدهم إلى منزل إحدى صديقاتي، وكانت تسكن مع صديقة لها، وطرق الباب عليها وهو يترنح ويقول بالفصحى: "نريد نساء". كما قام بالتهجم على أبي في مكتبه لأنه لا يقدّر مكانتي الشعرية. وفي إحدى أمسياتي الشعرية أحضر مائتي شخص من جمهور فريقي الاتحاد والحرية إلى القاعة كي يملأها.

وفي اتصال هاتفي من عبودة علمت أنه حصل على الإقامة بألمانيا تقديراً لشعره ومسرحه المضطهدين والمحاربين في بلادنا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى عناد الذي حصل على الإقامة بإيطاليا. وكان المريد الجديد يتحرق شوقاً للسفر إلى ألمانيا أو إيطاليا بعد أن أوصاه عبودة بأن ينجز عدة أمور لم يشأ المريد الجديد أن يصرّح لي بها.

عدت إلى دمشق تاركاً المريد الجديد وحيداً وحزيناً في حلب كما قال لي وهو يودعني. وبعد شهرين من إقامتي في دمشق، قرأت قصيدة له في جريدة " السفير " ملطوشة بكاملها من قصائدي. وبعد خمسة أشهر، قرأت قصيدة له ملطوشة أيضاً من شعري وقد ذيّلها باسمه وبجانب الاسم قرأت كلمة.. "امستردام".
..

٠٣‏/٠٥‏/٢٠٠٦

البطل


"أن تكون من أهالي الدرباسية وتقطن في حلب، فهذه مصيبة، لأن عليك استقبال أهالي الدرباسية القادمين من أجل المعاملات أو للعلاج في المستشفيات الحلبية أو للبحث عن قريب ضائع.. إلخ.. وبوجه بشوش وصدر رحب وكرم لا متناهٍ، ويجب ألا تظهر امتعاضك أو انزعاجك من أية حادثة تمر بها في أيام وجودهم عندك وإلا اعتبروا هذا موجهاً ضدهم شخصياً، أما أن تكون صبياً مراهقاً، فهذه مصيبة أكبر من تلك، إذ أن مهمة مرافقة هؤلاء 'السّواح' ملقاة على عاتقك، وهكذا كنتُ المنكوب الأكبر في بيتنا لأنني الصبي الوحيد على ست بنات شامتات بي عندما أرتدي ملابسي صباحاً وأخرج في رحلة سياحية إلى الطبيب مع ضيوفنا المرضى.

ولا مجال للتهرب من هؤلاء، فقد جربتُ مرة ذلك عندما خرجت في رحلة سياحية مع زوج خالتي نورا التي كانت ضائعة في تركيا وعثرنا عليها بعد أربعين عاماً، كان زوج خالتي يريد أن يتسوق، وكان علي أن أرافقه وأن أترجم له، وظللنا في سوق الساعات لمدة ثلاث ساعات وهو يبحث عبثاً عن ساعة من ماركة 'سايكوبيش' كما يقول أو سايكو 5، وعندما ضقت ذرعاً به ومن مهمتيّ المرافقة والترجمة أوصلته إلى مستودع الأدوية الذي يملكه والدي وقلت له أن ينتظرني لدقائق كي أبحث له عن ساعة السايكوبيش.. وهربت، وبالطبع فإن والدي الذي ابتلي بالسائح المتسوق في مكتبه، حطم أضلاعي، ومارس علي شتى أصناف التعذيب الجسدي والمعنوي كي لا أفكر مرة أخرى مجرد تفكير بأن أجعله يبتلي بهكذا نوع من السيّاح.

وفي مرة أخرى تركت إحدى السائحات المريضات عند الطبيب وقد وضعت أرقام هواتف بيتنا ومكتب أبي في يدها المرتعشة وهي على سرير الفحص بعد أن انفجر رأسي من الترجمة للطبيب، فتارة تقول إن بطنها يؤلمها، وتارة أخرى كبدها ثم تستدرك 'لا.. الكلية'.. وانتهى الأمر بعجزي عن الترجمة عندما قالت لي إن الحالب هو الذي يؤلمها، وقتها لم أكن أعرف الكلمة الكردية التي تعني الحالب بالعربية، فتركتُ الطبيب مع مريضته الغامضة، وفركتها باحثاً عن معجم طبي كردي عربي لأنني سأحتاج إليه كثيراً، فما أكثر السواح المرضى في بيتنا.

وفي يوم مشهود خرجت في الصباح الباكر لأوصل السيد 'أحمد بيزكه' وزوجته 'غزي' إلى محطة القطار، وكنت في الثالثة عشرة من عمري وقتها، وبعد أن أجلست أحمد وزوجته في مقعديهما طلبتُ أن أودعهما، ولكنه أصر علي أن أبقى قليلاً، فالقطار لم يمشِ بعد، وهكذا كلما طلبتُ أن أمضي كان يصر علي أن أبقى وكأنني جالس في بيته إلى أن تحرك القطار، فركضتُ مسرعاً إلى أقرب باب، وبعد لحظات من التفكير والجبن رميت نفسي مغمضاً عيني، وتدحرجت على الأرض، ثم انتبهتُ لبطاقتيهما في يدي، فركضت خلف القطار وأنا أمدّ البطاقات لأحد الأشخاص الواقفين قرب الباب، ولكن دون جدوى.

ذهبت إلى المسؤولين في المحطة، وشرحتُ لهم الوضع، فأرسلوا برقية إلى المحطة التالية، وهي محطة 'جبرين' وسويّ الأمر. لقد ذاق العجوزان الويلات على يدي المفتش إلى حين وصولهم إلى جبرين وصعود الموظف الوحيد في محطتها إلى القطار كي يبرئ المتهمين، فدهش أحمد بيزكه لذكائي بالإضافة لاندهاشه ببطولتي عندما رميت نفسي من القطار كما سمعت فيما بعد.

بعد شهر وصلتنا الأخبار إلى حلب، لقد أصبحتُ بطلاً قومياً في الدرباسية بفضل أحمد بيزكه، فهو يدور في سوق الدرباسية ويتحدث عني، وفي كل مرة يضيف عشرة كيلو مترات على سرعة القطار عندما رميتُ نفسي منه، كما كان يتلذذ بلفظ كلمتي 'برقية' و'محطة جبرين' للمستمعين المندهشين من ذكائي الخارق أنا الذي خرجتُ حماراً رسمياً من كل العقود التي وقّعتها في حياتي بدءاً من عقود الزواج والطلاق وانتهاء بعقود العمل. ولم تكن علاقتي بالبطولة بأفضل من علاقتي بالذكاء، فبالإضافة لغبائي كنت جباناً أمام كل ما له علاقة بالتكنولوجيا بدءاً بالكهرباء والغاز وانتهاء بالسيارات والطائرات. وقد احتجت إلى أكثر من نوع من المهدئات قبل أن تطأ قدمي الدرجة الأولى من درجات الطيارة بالإضافة لابتلاعي لكافة أنواع الكحول الموجودة في الطائرة لا حباً به بل خوفاً من هذا الارتفاع الهائل الذي أنا فيه، كما إنني أبقى متيقظاً في الباصات وأراقب الطريق مع السائق دائماً وأطلب منه أن يخفف السرعة، بينما لا يمل أحمد بيزكِه من الحديث عن بطولتي وذكائي في ذلك اليوم المشهود.

ما إن صعدت في السيارة التي ستمضي إلى الدرباسية من القامشلي حتى قلت للسائق : 'على مهلك'، فابتسم قائلاً : 'لم أجد بطلاً متواضعاً مثلك، بالمناسبة كل الأبطال لا يحبون الاستعراض مثلك'. لذلك اضطررت إلى تحمل كل تشفيطاته على الطريق المحفّرة وتلذذه باستعراض السرعة أمامي ولم لا فأنا 'البطل'. حتى وصلت إلى الدرباسية شبه ميت من الرعب خاصة وأن السائق طلب مني أن أرمي نفسي من السيارة وهي بسرعة مائة وعشرون كي يتأكد الركاب الذين معه من أنني البطل بشحمه ولحمه.

لم أسترح من تعب السفر حتى أمسك بي أحمد بيزكه وهو وسط حشد من الجماهير المستمعة وهو يصرخ بانفعال: 'هذا هو البطل الذي كنتُ أحدثكم عنه'. وكانت سرعة القطار الذي رميتُ نفسي منه قد تجاوزت المائتي كيلو متر في تلك اللحظة.

وبقيت في الدرباسية لعشرة أيام استخدمني فيها أحمد بيزكه كوسيلة إيضاح، واستثمرني كأفضل ما يمكن لمستثمِر أن يستثمِر، كان يمسكني من ياقة قميصي، ويرفعني عن الأرض نصف متر كي يرى الجمهور قامة البطل وهو يردد: 'هذا هو البطل العبقري'.

لم أعد أطيق الذهاب إلى الدرباسية، فإذا كنت راكباً على دراجة هوائية كان المارة يطلبون مني أن أرمي نفسي، وإذا صعدتُ عربة يجرها حمار كان الحوذي يلسع الحمار بالسوط كي يسرع ثم يلتفت إلي قائلاً :'هيا ارمِ نفسك أيها البطل'، أما إذا كنت راكباً في سيارة، فإن الركاب يصرخون بالسائق أن يسرع ويطلبون مني أن أحدد أية سرعة أحب أن أرمي نفسي، هذا بالإضافة إلى أنني كنت مطالباً بتفسيرات وشروحات عن محطة جبرين التي بات اسمها على كل لسان، وأصبحتْ أشهر من حلب ودمشق بل وحتى من نيويورك نفسها.

ومع مرور الزمن، كان رُهابي من السيارات والقطارات والطائرات يزداد، حتى أنني وصلتُ إلى الدرباسية ذات يوم شاحباً بسبب عدم استطاعتي النوم في القطار خوفاً، وبسبب توتري على طريق القامشلي درباسية، ومصادفة وجدتُ ابن أحمد بيزكه يحكي لجمهرة من الناس عن 'بطولاتي'، فاخترت طريق العودة إلى حلب بقلب مرتجف وروح خائفة من حماقات السائقين"