"أن تكون من أهالي الدرباسية وتقطن في حلب، فهذه مصيبة، لأن عليك استقبال أهالي الدرباسية القادمين من أجل المعاملات أو للعلاج في المستشفيات الحلبية أو للبحث عن قريب ضائع.. إلخ.. وبوجه بشوش وصدر رحب وكرم لا متناهٍ، ويجب ألا تظهر امتعاضك أو انزعاجك من أية حادثة تمر بها في أيام وجودهم عندك وإلا اعتبروا هذا موجهاً ضدهم شخصياً، أما أن تكون صبياً مراهقاً، فهذه مصيبة أكبر من تلك، إذ أن مهمة مرافقة هؤلاء 'السّواح' ملقاة على عاتقك، وهكذا كنتُ المنكوب الأكبر في بيتنا لأنني الصبي الوحيد على ست بنات شامتات بي عندما أرتدي ملابسي صباحاً وأخرج في رحلة سياحية إلى الطبيب مع ضيوفنا المرضى.
ولا مجال للتهرب من هؤلاء، فقد جربتُ مرة ذلك عندما خرجت في رحلة سياحية مع زوج خالتي نورا التي كانت ضائعة في تركيا وعثرنا عليها بعد أربعين عاماً، كان زوج خالتي يريد أن يتسوق، وكان علي أن أرافقه وأن أترجم له، وظللنا في سوق الساعات لمدة ثلاث ساعات وهو يبحث عبثاً عن ساعة من ماركة 'سايكوبيش' كما يقول أو سايكو 5، وعندما ضقت ذرعاً به ومن مهمتيّ المرافقة والترجمة أوصلته إلى مستودع الأدوية الذي يملكه والدي وقلت له أن ينتظرني لدقائق كي أبحث له عن ساعة السايكوبيش.. وهربت، وبالطبع فإن والدي الذي ابتلي بالسائح المتسوق في مكتبه، حطم أضلاعي، ومارس علي شتى أصناف التعذيب الجسدي والمعنوي كي لا أفكر مرة أخرى مجرد تفكير بأن أجعله يبتلي بهكذا نوع من السيّاح.
وفي مرة أخرى تركت إحدى السائحات المريضات عند الطبيب وقد وضعت أرقام هواتف بيتنا ومكتب أبي في يدها المرتعشة وهي على سرير الفحص بعد أن انفجر رأسي من الترجمة للطبيب، فتارة تقول إن بطنها يؤلمها، وتارة أخرى كبدها ثم تستدرك 'لا.. الكلية'.. وانتهى الأمر بعجزي عن الترجمة عندما قالت لي إن الحالب هو الذي يؤلمها، وقتها لم أكن أعرف الكلمة الكردية التي تعني الحالب بالعربية، فتركتُ الطبيب مع مريضته الغامضة، وفركتها باحثاً عن معجم طبي كردي عربي لأنني سأحتاج إليه كثيراً، فما أكثر السواح المرضى في بيتنا.
وفي يوم مشهود خرجت في الصباح الباكر لأوصل السيد 'أحمد بيزكه' وزوجته 'غزي' إلى محطة القطار، وكنت في الثالثة عشرة من عمري وقتها، وبعد أن أجلست أحمد وزوجته في مقعديهما طلبتُ أن أودعهما، ولكنه أصر علي أن أبقى قليلاً، فالقطار لم يمشِ بعد، وهكذا كلما طلبتُ أن أمضي كان يصر علي أن أبقى وكأنني جالس في بيته إلى أن تحرك القطار، فركضتُ مسرعاً إلى أقرب باب، وبعد لحظات من التفكير والجبن رميت نفسي مغمضاً عيني، وتدحرجت على الأرض، ثم انتبهتُ لبطاقتيهما في يدي، فركضت خلف القطار وأنا أمدّ البطاقات لأحد الأشخاص الواقفين قرب الباب، ولكن دون جدوى.
ذهبت إلى المسؤولين في المحطة، وشرحتُ لهم الوضع، فأرسلوا برقية إلى المحطة التالية، وهي محطة 'جبرين' وسويّ الأمر. لقد ذاق العجوزان الويلات على يدي المفتش إلى حين وصولهم إلى جبرين وصعود الموظف الوحيد في محطتها إلى القطار كي يبرئ المتهمين، فدهش أحمد بيزكه لذكائي بالإضافة لاندهاشه ببطولتي عندما رميت نفسي من القطار كما سمعت فيما بعد.
بعد شهر وصلتنا الأخبار إلى حلب، لقد أصبحتُ بطلاً قومياً في الدرباسية بفضل أحمد بيزكه، فهو يدور في سوق الدرباسية ويتحدث عني، وفي كل مرة يضيف عشرة كيلو مترات على سرعة القطار عندما رميتُ نفسي منه، كما كان يتلذذ بلفظ كلمتي 'برقية' و'محطة جبرين' للمستمعين المندهشين من ذكائي الخارق أنا الذي خرجتُ حماراً رسمياً من كل العقود التي وقّعتها في حياتي بدءاً من عقود الزواج والطلاق وانتهاء بعقود العمل. ولم تكن علاقتي بالبطولة بأفضل من علاقتي بالذكاء، فبالإضافة لغبائي كنت جباناً أمام كل ما له علاقة بالتكنولوجيا بدءاً بالكهرباء والغاز وانتهاء بالسيارات والطائرات. وقد احتجت إلى أكثر من نوع من المهدئات قبل أن تطأ قدمي الدرجة الأولى من درجات الطيارة بالإضافة لابتلاعي لكافة أنواع الكحول الموجودة في الطائرة لا حباً به بل خوفاً من هذا الارتفاع الهائل الذي أنا فيه، كما إنني أبقى متيقظاً في الباصات وأراقب الطريق مع السائق دائماً وأطلب منه أن يخفف السرعة، بينما لا يمل أحمد بيزكِه من الحديث عن بطولتي وذكائي في ذلك اليوم المشهود.
ما إن صعدت في السيارة التي ستمضي إلى الدرباسية من القامشلي حتى قلت للسائق : 'على مهلك'، فابتسم قائلاً : 'لم أجد بطلاً متواضعاً مثلك، بالمناسبة كل الأبطال لا يحبون الاستعراض مثلك'. لذلك اضطررت إلى تحمل كل تشفيطاته على الطريق المحفّرة وتلذذه باستعراض السرعة أمامي ولم لا فأنا 'البطل'. حتى وصلت إلى الدرباسية شبه ميت من الرعب خاصة وأن السائق طلب مني أن أرمي نفسي من السيارة وهي بسرعة مائة وعشرون كي يتأكد الركاب الذين معه من أنني البطل بشحمه ولحمه.
لم أسترح من تعب السفر حتى أمسك بي أحمد بيزكه وهو وسط حشد من الجماهير المستمعة وهو يصرخ بانفعال: 'هذا هو البطل الذي كنتُ أحدثكم عنه'. وكانت سرعة القطار الذي رميتُ نفسي منه قد تجاوزت المائتي كيلو متر في تلك اللحظة.
وبقيت في الدرباسية لعشرة أيام استخدمني فيها أحمد بيزكه كوسيلة إيضاح، واستثمرني كأفضل ما يمكن لمستثمِر أن يستثمِر، كان يمسكني من ياقة قميصي، ويرفعني عن الأرض نصف متر كي يرى الجمهور قامة البطل وهو يردد: 'هذا هو البطل العبقري'.
لم أعد أطيق الذهاب إلى الدرباسية، فإذا كنت راكباً على دراجة هوائية كان المارة يطلبون مني أن أرمي نفسي، وإذا صعدتُ عربة يجرها حمار كان الحوذي يلسع الحمار بالسوط كي يسرع ثم يلتفت إلي قائلاً :'هيا ارمِ نفسك أيها البطل'، أما إذا كنت راكباً في سيارة، فإن الركاب يصرخون بالسائق أن يسرع ويطلبون مني أن أحدد أية سرعة أحب أن أرمي نفسي، هذا بالإضافة إلى أنني كنت مطالباً بتفسيرات وشروحات عن محطة جبرين التي بات اسمها على كل لسان، وأصبحتْ أشهر من حلب ودمشق بل وحتى من نيويورك نفسها.
ومع مرور الزمن، كان رُهابي من السيارات والقطارات والطائرات يزداد، حتى أنني وصلتُ إلى الدرباسية ذات يوم شاحباً بسبب عدم استطاعتي النوم في القطار خوفاً، وبسبب توتري على طريق القامشلي درباسية، ومصادفة وجدتُ ابن أحمد بيزكه يحكي لجمهرة من الناس عن 'بطولاتي'، فاخترت طريق العودة إلى حلب بقلب مرتجف وروح خائفة من حماقات السائقين"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق