٠٨‏/١٢‏/٢٠٠٦

الشاعر سينتحر

"تمنيتُ أن أصاب بالسرطان، أولاً لأن الكلمة أعجبتني، وثانياً كي يشفق أهلي وأصدقائي وأقاربي عليّ ويندموا على كل ما اقترفوه بحقي من جرائم جسدية ومعنوية ومادية. فها هي الحبيبة التي رفضت حبي وطردتني شر طردة من حياتها وشارع بيتها مستعينة بأولاد حارتها الأشاوس تأتي إلي جاثية بعد أن علمت أن موتي قادم لا محالة.. وهي تبكي وتصارحني بحبها وندمها على رفضها لي، ولكنني سأبتسم بحزن، وأقول لها ودمع العين يسبقني: 'لا.. انسيني أنا ميت ولا ذنب لكِ كي تترملي باكراً'. عندها ستنهمر الدموع من عينيها بسخاء، وستبدأ بالنحيب : 'لم ولن أحب غيرك.. لا تمت أرجوك'. وبهدوء شديد سأداعب شعرها بكفي وأنا أنظر إلى الأفق وأقول: 'الحي أفضل من الميت.. ابحثي عن حبكِ بين الأحياء'. وستزداد فتاتي عويلاً حتى تنهار بين قدمي..

وسوف يشعر أبناء عمتي أنهم كانوا حقراء في التعامل معي عندما رفضوا انضمامي إلى فرقتهم الموسيقية كمغنٍ، بل شبهوا صوتي بنهيق الحمار، وسوف يأتون إلي مع آلاتهم الموسيقية متضرعين أن أسجل شريطاً معهم فوق إحدى أشرطة أم كلثوم، ولكنني سأعتذر بحزن مشوب بالكبرياء وأقول: 'أنا أرفض منطق الشفقة في الفن'..

وسأستمع إلى حديث نادم بين أبي وأمي في غرفة النوم وهما يبكيان، فأمي تندب وتشد شعرها وهي تقول: 'آخ.. لماذا لم أتركه يسافر إلى أوروبا كي يدرس السينما..؟' بينما سيضرب أبي رأسه بالجدار باكياً وهو يقول : 'آخ.. لماذا لم أعطه المئة ليرة.. لماذا؟'..

ثم نسيت كلمة السرطان، وأعجبت بفكرة الانتحار.. وفكرت في محاولة انتحار فاشلة تودي بي إلى المشفى، وهناك سأكون في غيبوبة، ولكني سأسمع كل الأحاديث التي تدور حولي. فها هو مدير مدرستنا يعدد مآثري ومناقبي على الرغم من أنه لم يكن يعلن بداية اليوم الدراسي قبل أن يصفعني. وسأسمع عمي الذي طردني من بيته كي لا أفسد ابنه المثالي يشيد بذكائي ويصفع ابنه المثالي الذي يبكي بجانبه لا حزناً علي بل بسبب الصفعة.. ولكي يكون حجم الألم والندم أكبر سأوقت موعد الانتحار بعد فاصل من الضرب المروع بحقي من قبل أبي وأمي معاً، كما أن الشعراء الذين سخروا من شعري سيطأطئون أمام جسدي الواهن وهم يرددون في دواخلهم: 'إنه شاعر حقيقي احتج على واقعه بالانتحار'، وسيعيدون النظر في قصائدي التي شتموها سابقاً، ويعتبرونها تحفة فنية رامبوية الطابع نسبة للشاعر الفرنسي آرثر رامبو.

وقد سمعت عن طالب في كلية الطب انتحر أثناء قيامه برحلة ترفيهية مع زملائه من أجل فتاة كان يحبها، وأعجبت به، ثم أعجبت بالشاعر خليل حاوي الذي انتحر احتجاجاً على الصمت العربي عام 1982 تجاه حصار بيروت، ومع ذلك فلم أجرؤ على الانتحار إلا في خيالي، وفجأة اتصل الصحفي وليد اسعيد، وطلب مني أن أحضر إلى بيت حكم البابا، وهو شاعر أكبر مني بأربع سنوات، وعندما دخلت وجدت حكم جالساً ووليد وإياد الغفري يتناقشون في موضوع ساخن، كان حكم مصراً على الانتحار، وكانا يمنعانه بخوف متعقل، وكان يشرح لهم كل مرة عن الطريقة التي سينتحر بها، فتارة سيطعن نفسه بسكين المطبخ لينهض الاثنان ويحتجان : 'لا تحكي هيك يا حكم' أو 'بنعرفك بتحب الحياة يا حكم'، وتارة أخرى سيتناول علبة من الحبوب المنومة وينام على أنغام 'ضربات القدر' لبيتهوفن خاصة أنه اهتدى إلى الموسيقى الكلاسيكية مؤخراً، وتارة سيرمي بنفسه من الطابق الرابع إلى محطة البنزين أسفل منزله، واحتياطاً سيحمل سيكارة مشتعلة في يده، وكان الاثنان قد وصلا إلى مرحلة البكاء على إصرار هذا الصديق المحب للحياة على الانتحار بينما كنت واقفاً أمام باب البراد الجاثم في الغرفة الوحيدة التي سُمّيتْ عبثاً بمنزل، آكل ما تيسر من الأطعمة التي تحضرها عمة الفقيد القادم..

وفجأة وجه حكم حديثه إلي: 'سأسألك لا كصديق وإنما كشاعر'.. وبعد أن شرح أسبابه الغرامية سألني : 'هل أنتحر أم لا؟'. نظر الصديقان إلي وهما ينتظران مني أن أنقذ الشاعر من الغياب، بينما فكرت أنا المتشرد الشاعر البوهيمي الذي لا سقف يؤويه في العاصمة على اعتبار أنني من أدباء الأقاليم عن سبب اتصالهم بي، وحدست أنهما سيطلبان مني الإقامة عنده كي أمنعه من الانتحار، فأجبته وفمي مملوء بالكوسا محشي الذي طبخته عمته: 'لو كنت مكانك لانتحرت'..

وهكذا أصبحتُ مقيماً في غرفة حكم بصفة حارس على حياة شاعر قد تفقده الأجيال متنعماً وحدي في العلن بالطبخات المتنوعة التي تحضرها العمة كل يوم لأن حكم كان يأكل في غيابي كي لا تتشوه صورته أمامي. وعندما أحسست بالخطر من تناقص الطعام اللذيذ بدأت أضغط عليه كي يعترف بأنه يأكل سراً، ولكنه كان يرفض الاعتراف، فقلت له إنني سأتأكد من كميات الطعام قبل خروجي لأعرف إذا كان يأكل أم لا. وبالفعل بدأ الشاعر الفقيد يقتات سندويش الشاورما كي يوهمني بأنه لا يأكل بينما كنت أهز رأسي بأسف مصطنع وأنا أنهره كي يأكل وأتلذذ وحدي بنعمة الطبخ المفقودة في عالم الشعراء. كان يحدثني عن الطرق التي سيستخدمها في الانتحار، وكنت أتثاءب وأنا غير مبال بما سيفعله من أهوال بنفسه أثناء نومي، والأنكى من ذلك أنني كنت أتركه وحيداً طول النهار وأعود ليلاً وأنا ثمل لا أحتاج إلى أكثر من جملتين انتحاريتين منه حتى أكون غائصاً في عالم الأحلام.

بدأ حكم يشتاق إلى السهر في الخارج، فخرج بفتوى عظيمة عندما قال لي ولإياد إنه يريد أن يسهر في مطعم قصر البللور لأن ساعة الصفر قد حانت وعليه أن يودع هذا المكان الجميل. وهناك أكل المنتحر ثلاث سمكات وحده وشرب بطحتي عرق وهو يتحدث عن انتحاره بينما كانت أرواح الأسماك تئنّ بين أضراسه المتوحشة. ثم طلب الحساب ونهرنا كي لا ندفع بشهامة غير متوقعة، ودفع الإكراميات السخية للنادلين، فدغدغني إحساس للمرة الأولى بأن هذه الأفعال هي أفعال شخص سينتحر فعلاً..

وبعد أيام ضجر حكم مني بسبب لامبالاتي أولاً وبانفرادي بالطعام ثانياً خاصة أنه مل من سندويش الشاورما السري، فأعلن أنه اهتدى إلى الطريقة المثالية للانتحار، وهي مكونة من مرحلتين، المرحلة الأولى سيتناول فيها الحبوب المنومة ويقفل باب الغرفة والنوافذ بإحكام شديد، أما المرحلة الثانية، فسيفتح فيها اسطوانة الغاز وينام بسلام مختنقاً بالغاز. فكرت للحظة، وأصبت بالرعب من أن أنام ولا أستيقظ إذا ما فعل ذلك.. فانقلب نعيمي جحيماً،وصرت متيقظاً لا أنام أبداً حتى ينام، وبدأت أستيقظ رعباً عند كل حركة يقوم بها جسده النائم، وكان يوقظني باكراً إمعاناً في الانتقام مني حتى نسينا معاً موضوع الانتحار، ومازلت أشاهد حكم إلى الآن وقد أصيب بمرض السكري، فتراه لا يشرب إلا الدايت كولا، ولا يأكل الدهون والشحوم متقيداً بصرامة بتعليمات الطبيب خوفاً من ارتفاع السكري، ما زال حياً يرزق.. ويتحدث على الموبايل."

ليست هناك تعليقات: