لم يكن لديّ ما أفعله في حلب سوى الجلوس في بيتي، وهو عبارة عن شقة في الطابق الأرضي اشتراها أبي كي أكون قربهم، وكانت الأطعمة تصلني من الطابق الأول حيث يقطن أهلي، وفي ذروة الملل والضجر طرق بابي شابان معجبان بشعري وبشخصيتي، أحدهما يدعى عناد، وهو شاب أسمر متوسط الطول ذو بنية قوية، والثاني يدعى عبودة، وهو بطول عناد، ولكنه مهلهل الجسم, كان عناد يحب أن يكون ممثلاً بينما كان عبودة يحب الشعر، وكانا متفقين على أشياء كثيرة بصمت، فالقهوة يصنعها عناد بينما يتخصص عبودة بصنع الشاي، والفشل في الدراسة أمر مشترك بينهما، فالاثنان لم يتابعا الدراسة، ولكنهما يعملان، عبودة دهان محترم بينما عناد يعمل مع شقيقه كشريك في محل للألبسة ساهم عناد بجدارة في إفلاسه.
كنت مثَلُهما الأعلى في كل شيء، وقد أصبحا مقيمين ببيتي ومسؤولين بشكل مباشر عن حياتي..
صباحاً تأتيني القهوة إلى سريري، فأشربها مع عناد، وما إن ننتهي من ذلك حتى يكون عبودة قد جاء بالفول والحمص. وكانا لا يتحرجان من خدمتي أمام الضيوف، فإذا طلب الضيف القهوة يكون عناد قد جاء بها بلمح البصر، وإذا طلب الشاي يكون عبودة جاهزاً.
في البداية كانا صامتين في أثناء وجود الضيوف، ولكنهما شيئاً فشيئاً أصبحا متحدثين بل وبدآ يدخلان في نقاشات مع أصدقائي الأدباء بشكل محرج بالنسبة إلي، فهما لا يفقهان شيئاً عن المواضيع التي نتحدث بها عادة، ولا علاقة لهما بالثقافة أصلاً إلا إذا اعتبرنا قصائدي ومقالاتي التي قرؤوها ثقافة، ولكن الإحراج بدأ يكبر عندما وضعا نفسيهما في موقع المدافعين عن وجهات نظري في أي موضوع نتحدث به، فكانت الشتائم تنهال على الكاتب الذي يعارضني في أية فكرة، والغريب أن أصدقائي الأدباء كانوا يتقبلون ذلك من هذين الأميين.
كانا يعتبرانني أهم شاعر في العالم وأهم صحفي في العالم، وكانت الكلمة التي أقولها تدون على أوراقهما فوراً كأقوال مأثورة، والمقالة التي تنشر لي تعتبر حدثاً عظيماً، وكان كل الكتاب الذين يزورونني أعداء لي حتى يثبتوا العكس، لذلك كانا يضطهدان ضيوفي دون أن يعيرا انتباهاً لملاحظاتي الدائمة لهما بالتزام التهذيب مع الضيوف، وكانا يستسخفان كل الأسماء التي ترد في حواراتهما مع ضيوفي، فمحمود درويش لا مجال لمقارنته بي، وأدونيس اتصل البارحة ثلاث مرات من فرنسا كي يطمئن على كتاباتي.. إلخ.
كنت أصاب بخجل مريع عندما كانا يكذبان بهذا الشكل الفاضح، وكانا يسكتانني كلما حاولت التدخل، والغريب أن الأدباء كانوا يصدقونهما. وهكذا أصبح محمود درويش يسرق من قصائدي، وأدونيس يتمنى أن يحادثني تلفونياً، ورياض الريس يلح علي لكي أنشر ولو مقالة بسيطة في مجلته اللندنية "الناقد". حتى أن عبودة تجرأ ومسح الأرض بالمتنبي مستنداً إلى قصيدة يقول المتنبي في مطلعها الذي أصبح موضة عند الشعراء: "على قلق كأن الريح تحتي"، وكان عبودة قد حصل على معلومة خطيرة تفّه بها هذا المقطع، واستطاع إقناع عتاولة الثقافة بوجهة نظره التي تقول إن حصان المتنبي كان يدعى "قلق"، وهذا يعني تحطيم المجاز في القصيدة وتحويلها إلى قصيدة في مدح الحصان لا أكثر ولا أقل.
ولكي لا يفارقاني طويلاً بدآ بممارسة عمليهما في بيتي، وصار طبيعياً أن أستيقظ صباحاً لأجد عبودة يلقي محاضرة بذيئة على عمال ورشته، فهذا لم "يحفّ" الباب جيداً، وذاك لم يمعجن الجدار كما يجب، أما عناد، فكنت أستمع إلى مساوماته مع مهربيّ الألبسة وأنا على سريري. في البداية لم أكن أجرؤ على الخروج من غرفتي، ولكن الفضول قادني إلى الصالون لأجد عمال ورشة الدهان بملابسهم الملطخة ينهضون لتحيتي وهم يبدون إعجابهم بمقالاتي وقصائدي وسط ابتسامة فخر واعتزاز من قبل معلمهم عبودة. ومرة أخرى رحب أحد المهربين بي وهو يتلو مقطعاً من شعري.
بعد فترة، بدأ المريدان يغيبان طويلاً عن البيت لأكتشف أنهما أصبحا يجالسان أدباء المدينة في مقهى القصر، بل ويسكران مع كبار الأدباء في النادي العمالي، وبدأ الأدباء بطلبهما على تلفوني الشخصي، فأصبحت فجأة عامل سنترال عندهما، بل إن عبودة كان يغمزني لأقول لأديبٍ كبيرٍ إن عبودة غير موجود، وكذلك كان يفعل عناد مع المسرحيين الكبار، ولكن ولاءهما لي ظل كما هو، وبقيت مثلهما الأعلى والسقف الذي لا يسمحان فيه لنفسيهما بتجاوزه.
كنت مشهوراً بمداخلاتي الساخرة واللاذعة سواء في الأمسيات الأدبية التي يتلوها حوار مفتوح، أو في مهرجانات المسرح التي يُفتح فيها الحوار بعد كل عرض، ولكني في تلك الفترة كنت مصراً على عدم الخروج من المنزل بسبب حالة طويلة من الكآبة لازمتني حتى مجيء المريدين إلى حياتي. وكان من الطبيعي أن أخرج من المنزل لحضور أمسية أدبية لعدة شعراء متوسطي الموهبة رضوخاً لأوامر المُريدَين، وفي أثناء الأمسية كان عبودة يبصق على الأرض ويقول : "تافه"، وعناد يتنحنح بصوت عال عند كل مقطع لا يعجبه. كنت خجلاً منهما خاصة عندما كان الحاضرون ينظرون إليهما باستغراب واستهجان. وما إن بدأ الحوار حتى كان عبودة أول الصاعدين إلى المنبر، واستطاع بلمح البصر أن يجذب الحاضرين إليه بعد أن اعتبر كل ما قيل من شعر هو شعر تافه مفبرك، ثم أشار إلي لأصعد وأقول رأيي، فصعدتُ مرغماً لأن عناد كان قد جرني ودفعني إلى الأمام.
وقبل الصعود إلى المنبر التصق بي عبودة وهمس لي أن أمسح الأرض بجميع الشعراء الذين قرأوا شعرهم، ففعلتُ ما طلب مني بطريقتي الساخرة وسط تصفيق عبودة وعناد، فما كان من الصالة إلا أن تصفق بسبب العدوى.
وبعد أيام، أخذاني إلى مهرجان للمسرح. وفي أثناء العرض المسرحي كان عبودة يصرخ معلقاً شتى أنواع التعليقات لأن العتمة كانت تلف الصالة، فكان يقول للممثل: "مو هيك يا جحش"، وينادي الآخر :"خود إضاءتك يا تيس"، وسط ضحكات الجمهور الذي بدأ يشارك بالتعليق البذيء حتى انقلب العرض إلى فوضى متكاملة، وتحول الممثلون أشباحاً خائفة وخجلة من نفسها، وعندما بدأ الحوار كان عناد وعبودة قد رفعا لي يدي، فرحب بي مدير الندوة، واضطررتُ إلى الصعود بعد توصيات عبودة وعناد بأن أمسّح الأرض بالعرض، وبالفعل قمتُ بالواجب، وكان الجمهور يصفق لي على أثر تصفيق عبودة وعناد بعد كل جملة كنتُ أقولها.
وفي اليوم التالي، سمعت عبودة يتحدث على التلفون مع مخرج مسرحي ويطمئنه بأن "الأستاذ" -أي أنا- سيمتدحه في ندوة اليوم. وعندما اعترضت على طلبه استطاع إقناعي بأن هذا المخرج مسكين ومحارب وأن كلمتي بعد عرضه ستساعده على تجاوز محنه جميعاً، خاصة وأن زوجته مصابة بالسرطان وسوف تموت قريباً، فما المشكلة إذا أفرحناها قليلاً قبل ذلك، وفي أثناء العرض كان عبودة وعناد يطلقان صرخات الإعجاب عند كل مشهد من قبيل "يا سلام" "الله أكبر"، ولما بدأ الحوار رفعا لي يدي بعد أن أشارا إلى امرأة شاحبة جالسة بالقرب منا : "شوفها.. هي زوجته للمخرج.. يا حرام".
نهضتُ مكتئباً من رداءة العرض ومن شكل الزوجة التي ستموت قريباً، وامتدحتُ العرض بشكل لا مثيل له وأنا أسترق النظرات إلى وجه الزوجة الشاحب.
مساءً كان عبودة وعناد قد تركاني وحدي بعد أن سمعت عبودة يحدد موعداً مع المخرج المسرحي نفسه في النادي العمالي ليسكروا مع الفرقة بمناسبة نجاح العرض، وكان عبودة يصر على المخرج ألا ينسى بأن يجلسوا في جناح العائلات، وهذا يعني أن فتيات الفرقة وزوجة المخرج موجودات في السهرة، ولم تنقض ساعتان حتى كان عبودة وعناد قد عادا بصحبة فتاتين من فتيات الفرقة، جلست معهم وشربنا النبيذ، وكان في بالي أن أطبّق واحدة لنفسي، ولكن عبودة طلب مني أن أنهض إلى غرفتي كي أنام لأن عندي لقاء هام جداً مع المخرج جواد الأسدي في الصباح، وما أن سمعت الفتاتان باسم جواد الأسدي حتى طلبتا مني أن أعرفهما عليه، فوعدهما عبودة بذلك بينما كان عناد يجرني إلى غرفتي.
لم أستطع النوم بالطبع وأنا أسمع حفيف القبل والتنهدات من الصالون، وأتخيل كيف يعانق كل منهما فتاته في حين كانت صورة جواد الأسدي وموعده الكاذب ومسرحياته تملأ فضاء غرفتي.
في الصباح، شربنا القهوة مع الفتاتين اللتين تنتظران قدوم جواد الأسدي وعلى جسديهما بعض العلامات من ليلة البارحة، خرج عناد من المنزل، ورنّ التليفون بعد ثلاث دقائق من خروجه، رفع عبود السماعة وبدأ يتحدث: "أهلين جواد.. لا والله الأستاذ موفاضي اليوم.. راسه عم يوجعه.. بكره انشا الله.. على تلفون.. أهلين جواد" . أصيبت الفتاتان بخيبة أمل بينما نظر إلي عبودة وقال: "اطّمن.. قردفت لك اياه". وبعد ثلاث دقائق، كان عناد يدخل ضاحكاً. حاولت مراراً أن أحصل على علاقة مع فتاة من الفتيات الكثر اللواتي يحضرن إلى بيتي دون جدوى، فقد كان عناد يقول لي: "أنت أستاذ كبير. هدول مو من مستواك.. خليهم يشتهوك بس"، وكنت أقتنع بأستذتي بينما كانا يغوصان في بحر من الملذات.
بعد شهر سمعت من الناس أن هناك عرضاً مسرحياً من إخراج عبودة، فمضيتُ إلى حضوره، وكان عناد هو بطل المسرحية. أما باقي الممثلين، فقد تعرفتُ على الفتيات منهن إذ حضرن إلى بيتي مراراً، بينما ظللتُ أشك في معرفتي بالممثلين الذكور حتى تذكرت أنهم عمال ورشة الدهان أنفسهم، وكان الدهان/الممثل منهم إذا التقت نظراته بنظراتي في أثناء أداء دوره يقول لي: "أهلين أستاذ"، ويتابع مونولوغه، وبعد انتهاء العرض، جلس عبودة وعناد وفتاتان ممثلتان إلى المنصة كي يبدأ الحوار.. نظر إلي عبودة، وقال: "تفضل أستاذ.. المكريفون معك".
وجدت نفسي خلف الميكروفون، وكانت نظرات عبودة وعناد تتضرع إلى كي أمتدح عرضهما البائس والتافه، وفعلت ذلك، فشكراني بنظرات ممتنة. وكرّت السبحة بعد ذلك العرض ليقدما أكثر من عشرة عروض مسرحية في ظرف ثلاثة أشهر. وكانا يصوران هذه العروض بثلاث كاميرات فيديو يقوم بعد ذلك أحد أصحاب محلات الفيديو بعمليات المونتاج، ووضع شارة لكل مسرحية تبدأ بـ عناد محمود في.. هاملت.. تأليف شكسبير.. إخراج عبودة عبد الله.. أو عناد محمود في البرجوازي النبيل تأليف موليير.. إخراج عبودة عبد الله.. وكان كل عرض من هذه العروض يعرض ليومين أو ثلاثة أيام لا أكثر بتمويل من المنظمات الشعبية التي ترعى الهواة على الدوام..
بقيتُ ممنوعاً من الخروج حتى بعد زوال كآبتي لأن المريدين كانا يرددان دائماً: "لا تكن شخصاً عاماً.. دع الناس تحلم بمشاهدتك". وكانا يخدمانني كالسابق رغم انشغالهما بالمسرح...
وفي إحدى السهرات الصاخبة، سكر أحد المدعوين، وبدأ بامتداحي وإبداء إعجابه بي لكثرة ما سمع عني على لساني عبودة وعناد، وكان واضحاً أنه يريد أن يكون مريداً جديداً لي بمباركة من عبودة وعناد خاصة أن عبودة قد صرّح بأن هذا المريد الجديد سيقيم "معنا" بالمنزل، إلا أن المريد الجديد لم يكن على مستوى المسؤولية، فقد اقترب من إحدى الفتيات، وبدأ بمعانقتها فوراً وهو يقرأ مقطعاً رومنسياً من شعري.. فما كان من عبودة إلا أن جره من شعره إلى الخارج من دون أن يكترث لحالة الإقياء التي انتابت المريد الجديد. خرج عناد خلف عبودة الذي سحب المريد الجديد إلى الشارع، فخرجت خلفهما تاركاً الفتيات يمسحن السجادة من مخلفات الإقياء.
كان المريد راكعاً على قدمي عبودة وهو يبكي: " أرجوك دعني أدخل وأقدم اعتذاري"، بينما كان عبودة يرفسه دون رحمة على وجهه : "اخرس وانقلع". أما عناد، فكان يمسك المريد الجديد ويصفعه بعنف ويبصق في وجهه وهو يقول له: "أنت بدك تضل حمار.. انقلع"، تدخلت حاسماً وأنا أرمق المُريدَين بغضب، فافلتا المريد الجديد، وأمراه بالعودة إلى المنزل.. أي منزلي.
في اليوم التالي، كان المريد الجديد يقوم بالأعباء المنزلية كلها بينما كان المريدان يضعان قصائدي أمامهما ويكتبان أشياء غامضة على الدفاتر إلى أن سمعت أنهما يطبعان كتاباً شعرياً من تأليف عبودة عبد الله وهو بعنوان "النخيل يذرف التمر". وبعد شهرين كان عناد يتأبط شرائط الفيديو التي تضم التسجيلات الكاملة لأعماله المسرحية، وكذلك كان يفعل عبودة بنسخ أخرى من ذات الشرائط مضيفاً إليها كتابه الشعري والمقالات التي كتبت عنه في الجرائد بأقلام كتاب لم أسمع بهم في حياتي، ويقومان بوداعي. تعانقنا وبكينا من شدة التأثر.. وسافرا، عناد إلى إيطاليا، وعبودة إلى ألمانيا، بعد أن أوصيا المريد الجديد بأن يأخذ باله مني ويقوم على خدمتي كما كانا يفعلان وأفضل.
بقي المريد الجديد عندي على الرغم من الحماقات الكثيرة التي ارتكبها، فقد ضرب أحد النقاد لأنه وجه ملاحظة إلى شعري في المقهى. كما أنه ذهب سكراناً بصحبة أحدهم إلى منزل إحدى صديقاتي، وكانت تسكن مع صديقة لها، وطرق الباب عليها وهو يترنح ويقول بالفصحى: "نريد نساء". كما قام بالتهجم على أبي في مكتبه لأنه لا يقدّر مكانتي الشعرية. وفي إحدى أمسياتي الشعرية أحضر مائتي شخص من جمهور فريقي الاتحاد والحرية إلى القاعة كي يملأها.
وفي اتصال هاتفي من عبودة علمت أنه حصل على الإقامة بألمانيا تقديراً لشعره ومسرحه المضطهدين والمحاربين في بلادنا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى عناد الذي حصل على الإقامة بإيطاليا. وكان المريد الجديد يتحرق شوقاً للسفر إلى ألمانيا أو إيطاليا بعد أن أوصاه عبودة بأن ينجز عدة أمور لم يشأ المريد الجديد أن يصرّح لي بها.
عدت إلى دمشق تاركاً المريد الجديد وحيداً وحزيناً في حلب كما قال لي وهو يودعني. وبعد شهرين من إقامتي في دمشق، قرأت قصيدة له في جريدة " السفير " ملطوشة بكاملها من قصائدي. وبعد خمسة أشهر، قرأت قصيدة له ملطوشة أيضاً من شعري وقد ذيّلها باسمه وبجانب الاسم قرأت كلمة.. "امستردام".
..
كنت مثَلُهما الأعلى في كل شيء، وقد أصبحا مقيمين ببيتي ومسؤولين بشكل مباشر عن حياتي..
صباحاً تأتيني القهوة إلى سريري، فأشربها مع عناد، وما إن ننتهي من ذلك حتى يكون عبودة قد جاء بالفول والحمص. وكانا لا يتحرجان من خدمتي أمام الضيوف، فإذا طلب الضيف القهوة يكون عناد قد جاء بها بلمح البصر، وإذا طلب الشاي يكون عبودة جاهزاً.
في البداية كانا صامتين في أثناء وجود الضيوف، ولكنهما شيئاً فشيئاً أصبحا متحدثين بل وبدآ يدخلان في نقاشات مع أصدقائي الأدباء بشكل محرج بالنسبة إلي، فهما لا يفقهان شيئاً عن المواضيع التي نتحدث بها عادة، ولا علاقة لهما بالثقافة أصلاً إلا إذا اعتبرنا قصائدي ومقالاتي التي قرؤوها ثقافة، ولكن الإحراج بدأ يكبر عندما وضعا نفسيهما في موقع المدافعين عن وجهات نظري في أي موضوع نتحدث به، فكانت الشتائم تنهال على الكاتب الذي يعارضني في أية فكرة، والغريب أن أصدقائي الأدباء كانوا يتقبلون ذلك من هذين الأميين.
كانا يعتبرانني أهم شاعر في العالم وأهم صحفي في العالم، وكانت الكلمة التي أقولها تدون على أوراقهما فوراً كأقوال مأثورة، والمقالة التي تنشر لي تعتبر حدثاً عظيماً، وكان كل الكتاب الذين يزورونني أعداء لي حتى يثبتوا العكس، لذلك كانا يضطهدان ضيوفي دون أن يعيرا انتباهاً لملاحظاتي الدائمة لهما بالتزام التهذيب مع الضيوف، وكانا يستسخفان كل الأسماء التي ترد في حواراتهما مع ضيوفي، فمحمود درويش لا مجال لمقارنته بي، وأدونيس اتصل البارحة ثلاث مرات من فرنسا كي يطمئن على كتاباتي.. إلخ.
كنت أصاب بخجل مريع عندما كانا يكذبان بهذا الشكل الفاضح، وكانا يسكتانني كلما حاولت التدخل، والغريب أن الأدباء كانوا يصدقونهما. وهكذا أصبح محمود درويش يسرق من قصائدي، وأدونيس يتمنى أن يحادثني تلفونياً، ورياض الريس يلح علي لكي أنشر ولو مقالة بسيطة في مجلته اللندنية "الناقد". حتى أن عبودة تجرأ ومسح الأرض بالمتنبي مستنداً إلى قصيدة يقول المتنبي في مطلعها الذي أصبح موضة عند الشعراء: "على قلق كأن الريح تحتي"، وكان عبودة قد حصل على معلومة خطيرة تفّه بها هذا المقطع، واستطاع إقناع عتاولة الثقافة بوجهة نظره التي تقول إن حصان المتنبي كان يدعى "قلق"، وهذا يعني تحطيم المجاز في القصيدة وتحويلها إلى قصيدة في مدح الحصان لا أكثر ولا أقل.
ولكي لا يفارقاني طويلاً بدآ بممارسة عمليهما في بيتي، وصار طبيعياً أن أستيقظ صباحاً لأجد عبودة يلقي محاضرة بذيئة على عمال ورشته، فهذا لم "يحفّ" الباب جيداً، وذاك لم يمعجن الجدار كما يجب، أما عناد، فكنت أستمع إلى مساوماته مع مهربيّ الألبسة وأنا على سريري. في البداية لم أكن أجرؤ على الخروج من غرفتي، ولكن الفضول قادني إلى الصالون لأجد عمال ورشة الدهان بملابسهم الملطخة ينهضون لتحيتي وهم يبدون إعجابهم بمقالاتي وقصائدي وسط ابتسامة فخر واعتزاز من قبل معلمهم عبودة. ومرة أخرى رحب أحد المهربين بي وهو يتلو مقطعاً من شعري.
بعد فترة، بدأ المريدان يغيبان طويلاً عن البيت لأكتشف أنهما أصبحا يجالسان أدباء المدينة في مقهى القصر، بل ويسكران مع كبار الأدباء في النادي العمالي، وبدأ الأدباء بطلبهما على تلفوني الشخصي، فأصبحت فجأة عامل سنترال عندهما، بل إن عبودة كان يغمزني لأقول لأديبٍ كبيرٍ إن عبودة غير موجود، وكذلك كان يفعل عناد مع المسرحيين الكبار، ولكن ولاءهما لي ظل كما هو، وبقيت مثلهما الأعلى والسقف الذي لا يسمحان فيه لنفسيهما بتجاوزه.
كنت مشهوراً بمداخلاتي الساخرة واللاذعة سواء في الأمسيات الأدبية التي يتلوها حوار مفتوح، أو في مهرجانات المسرح التي يُفتح فيها الحوار بعد كل عرض، ولكني في تلك الفترة كنت مصراً على عدم الخروج من المنزل بسبب حالة طويلة من الكآبة لازمتني حتى مجيء المريدين إلى حياتي. وكان من الطبيعي أن أخرج من المنزل لحضور أمسية أدبية لعدة شعراء متوسطي الموهبة رضوخاً لأوامر المُريدَين، وفي أثناء الأمسية كان عبودة يبصق على الأرض ويقول : "تافه"، وعناد يتنحنح بصوت عال عند كل مقطع لا يعجبه. كنت خجلاً منهما خاصة عندما كان الحاضرون ينظرون إليهما باستغراب واستهجان. وما إن بدأ الحوار حتى كان عبودة أول الصاعدين إلى المنبر، واستطاع بلمح البصر أن يجذب الحاضرين إليه بعد أن اعتبر كل ما قيل من شعر هو شعر تافه مفبرك، ثم أشار إلي لأصعد وأقول رأيي، فصعدتُ مرغماً لأن عناد كان قد جرني ودفعني إلى الأمام.
وقبل الصعود إلى المنبر التصق بي عبودة وهمس لي أن أمسح الأرض بجميع الشعراء الذين قرأوا شعرهم، ففعلتُ ما طلب مني بطريقتي الساخرة وسط تصفيق عبودة وعناد، فما كان من الصالة إلا أن تصفق بسبب العدوى.
وبعد أيام، أخذاني إلى مهرجان للمسرح. وفي أثناء العرض المسرحي كان عبودة يصرخ معلقاً شتى أنواع التعليقات لأن العتمة كانت تلف الصالة، فكان يقول للممثل: "مو هيك يا جحش"، وينادي الآخر :"خود إضاءتك يا تيس"، وسط ضحكات الجمهور الذي بدأ يشارك بالتعليق البذيء حتى انقلب العرض إلى فوضى متكاملة، وتحول الممثلون أشباحاً خائفة وخجلة من نفسها، وعندما بدأ الحوار كان عناد وعبودة قد رفعا لي يدي، فرحب بي مدير الندوة، واضطررتُ إلى الصعود بعد توصيات عبودة وعناد بأن أمسّح الأرض بالعرض، وبالفعل قمتُ بالواجب، وكان الجمهور يصفق لي على أثر تصفيق عبودة وعناد بعد كل جملة كنتُ أقولها.
وفي اليوم التالي، سمعت عبودة يتحدث على التلفون مع مخرج مسرحي ويطمئنه بأن "الأستاذ" -أي أنا- سيمتدحه في ندوة اليوم. وعندما اعترضت على طلبه استطاع إقناعي بأن هذا المخرج مسكين ومحارب وأن كلمتي بعد عرضه ستساعده على تجاوز محنه جميعاً، خاصة وأن زوجته مصابة بالسرطان وسوف تموت قريباً، فما المشكلة إذا أفرحناها قليلاً قبل ذلك، وفي أثناء العرض كان عبودة وعناد يطلقان صرخات الإعجاب عند كل مشهد من قبيل "يا سلام" "الله أكبر"، ولما بدأ الحوار رفعا لي يدي بعد أن أشارا إلى امرأة شاحبة جالسة بالقرب منا : "شوفها.. هي زوجته للمخرج.. يا حرام".
نهضتُ مكتئباً من رداءة العرض ومن شكل الزوجة التي ستموت قريباً، وامتدحتُ العرض بشكل لا مثيل له وأنا أسترق النظرات إلى وجه الزوجة الشاحب.
مساءً كان عبودة وعناد قد تركاني وحدي بعد أن سمعت عبودة يحدد موعداً مع المخرج المسرحي نفسه في النادي العمالي ليسكروا مع الفرقة بمناسبة نجاح العرض، وكان عبودة يصر على المخرج ألا ينسى بأن يجلسوا في جناح العائلات، وهذا يعني أن فتيات الفرقة وزوجة المخرج موجودات في السهرة، ولم تنقض ساعتان حتى كان عبودة وعناد قد عادا بصحبة فتاتين من فتيات الفرقة، جلست معهم وشربنا النبيذ، وكان في بالي أن أطبّق واحدة لنفسي، ولكن عبودة طلب مني أن أنهض إلى غرفتي كي أنام لأن عندي لقاء هام جداً مع المخرج جواد الأسدي في الصباح، وما أن سمعت الفتاتان باسم جواد الأسدي حتى طلبتا مني أن أعرفهما عليه، فوعدهما عبودة بذلك بينما كان عناد يجرني إلى غرفتي.
لم أستطع النوم بالطبع وأنا أسمع حفيف القبل والتنهدات من الصالون، وأتخيل كيف يعانق كل منهما فتاته في حين كانت صورة جواد الأسدي وموعده الكاذب ومسرحياته تملأ فضاء غرفتي.
في الصباح، شربنا القهوة مع الفتاتين اللتين تنتظران قدوم جواد الأسدي وعلى جسديهما بعض العلامات من ليلة البارحة، خرج عناد من المنزل، ورنّ التليفون بعد ثلاث دقائق من خروجه، رفع عبود السماعة وبدأ يتحدث: "أهلين جواد.. لا والله الأستاذ موفاضي اليوم.. راسه عم يوجعه.. بكره انشا الله.. على تلفون.. أهلين جواد" . أصيبت الفتاتان بخيبة أمل بينما نظر إلي عبودة وقال: "اطّمن.. قردفت لك اياه". وبعد ثلاث دقائق، كان عناد يدخل ضاحكاً. حاولت مراراً أن أحصل على علاقة مع فتاة من الفتيات الكثر اللواتي يحضرن إلى بيتي دون جدوى، فقد كان عناد يقول لي: "أنت أستاذ كبير. هدول مو من مستواك.. خليهم يشتهوك بس"، وكنت أقتنع بأستذتي بينما كانا يغوصان في بحر من الملذات.
بعد شهر سمعت من الناس أن هناك عرضاً مسرحياً من إخراج عبودة، فمضيتُ إلى حضوره، وكان عناد هو بطل المسرحية. أما باقي الممثلين، فقد تعرفتُ على الفتيات منهن إذ حضرن إلى بيتي مراراً، بينما ظللتُ أشك في معرفتي بالممثلين الذكور حتى تذكرت أنهم عمال ورشة الدهان أنفسهم، وكان الدهان/الممثل منهم إذا التقت نظراته بنظراتي في أثناء أداء دوره يقول لي: "أهلين أستاذ"، ويتابع مونولوغه، وبعد انتهاء العرض، جلس عبودة وعناد وفتاتان ممثلتان إلى المنصة كي يبدأ الحوار.. نظر إلي عبودة، وقال: "تفضل أستاذ.. المكريفون معك".
وجدت نفسي خلف الميكروفون، وكانت نظرات عبودة وعناد تتضرع إلى كي أمتدح عرضهما البائس والتافه، وفعلت ذلك، فشكراني بنظرات ممتنة. وكرّت السبحة بعد ذلك العرض ليقدما أكثر من عشرة عروض مسرحية في ظرف ثلاثة أشهر. وكانا يصوران هذه العروض بثلاث كاميرات فيديو يقوم بعد ذلك أحد أصحاب محلات الفيديو بعمليات المونتاج، ووضع شارة لكل مسرحية تبدأ بـ عناد محمود في.. هاملت.. تأليف شكسبير.. إخراج عبودة عبد الله.. أو عناد محمود في البرجوازي النبيل تأليف موليير.. إخراج عبودة عبد الله.. وكان كل عرض من هذه العروض يعرض ليومين أو ثلاثة أيام لا أكثر بتمويل من المنظمات الشعبية التي ترعى الهواة على الدوام..
بقيتُ ممنوعاً من الخروج حتى بعد زوال كآبتي لأن المريدين كانا يرددان دائماً: "لا تكن شخصاً عاماً.. دع الناس تحلم بمشاهدتك". وكانا يخدمانني كالسابق رغم انشغالهما بالمسرح...
وفي إحدى السهرات الصاخبة، سكر أحد المدعوين، وبدأ بامتداحي وإبداء إعجابه بي لكثرة ما سمع عني على لساني عبودة وعناد، وكان واضحاً أنه يريد أن يكون مريداً جديداً لي بمباركة من عبودة وعناد خاصة أن عبودة قد صرّح بأن هذا المريد الجديد سيقيم "معنا" بالمنزل، إلا أن المريد الجديد لم يكن على مستوى المسؤولية، فقد اقترب من إحدى الفتيات، وبدأ بمعانقتها فوراً وهو يقرأ مقطعاً رومنسياً من شعري.. فما كان من عبودة إلا أن جره من شعره إلى الخارج من دون أن يكترث لحالة الإقياء التي انتابت المريد الجديد. خرج عناد خلف عبودة الذي سحب المريد الجديد إلى الشارع، فخرجت خلفهما تاركاً الفتيات يمسحن السجادة من مخلفات الإقياء.
كان المريد راكعاً على قدمي عبودة وهو يبكي: " أرجوك دعني أدخل وأقدم اعتذاري"، بينما كان عبودة يرفسه دون رحمة على وجهه : "اخرس وانقلع". أما عناد، فكان يمسك المريد الجديد ويصفعه بعنف ويبصق في وجهه وهو يقول له: "أنت بدك تضل حمار.. انقلع"، تدخلت حاسماً وأنا أرمق المُريدَين بغضب، فافلتا المريد الجديد، وأمراه بالعودة إلى المنزل.. أي منزلي.
في اليوم التالي، كان المريد الجديد يقوم بالأعباء المنزلية كلها بينما كان المريدان يضعان قصائدي أمامهما ويكتبان أشياء غامضة على الدفاتر إلى أن سمعت أنهما يطبعان كتاباً شعرياً من تأليف عبودة عبد الله وهو بعنوان "النخيل يذرف التمر". وبعد شهرين كان عناد يتأبط شرائط الفيديو التي تضم التسجيلات الكاملة لأعماله المسرحية، وكذلك كان يفعل عبودة بنسخ أخرى من ذات الشرائط مضيفاً إليها كتابه الشعري والمقالات التي كتبت عنه في الجرائد بأقلام كتاب لم أسمع بهم في حياتي، ويقومان بوداعي. تعانقنا وبكينا من شدة التأثر.. وسافرا، عناد إلى إيطاليا، وعبودة إلى ألمانيا، بعد أن أوصيا المريد الجديد بأن يأخذ باله مني ويقوم على خدمتي كما كانا يفعلان وأفضل.
بقي المريد الجديد عندي على الرغم من الحماقات الكثيرة التي ارتكبها، فقد ضرب أحد النقاد لأنه وجه ملاحظة إلى شعري في المقهى. كما أنه ذهب سكراناً بصحبة أحدهم إلى منزل إحدى صديقاتي، وكانت تسكن مع صديقة لها، وطرق الباب عليها وهو يترنح ويقول بالفصحى: "نريد نساء". كما قام بالتهجم على أبي في مكتبه لأنه لا يقدّر مكانتي الشعرية. وفي إحدى أمسياتي الشعرية أحضر مائتي شخص من جمهور فريقي الاتحاد والحرية إلى القاعة كي يملأها.
وفي اتصال هاتفي من عبودة علمت أنه حصل على الإقامة بألمانيا تقديراً لشعره ومسرحه المضطهدين والمحاربين في بلادنا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى عناد الذي حصل على الإقامة بإيطاليا. وكان المريد الجديد يتحرق شوقاً للسفر إلى ألمانيا أو إيطاليا بعد أن أوصاه عبودة بأن ينجز عدة أمور لم يشأ المريد الجديد أن يصرّح لي بها.
عدت إلى دمشق تاركاً المريد الجديد وحيداً وحزيناً في حلب كما قال لي وهو يودعني. وبعد شهرين من إقامتي في دمشق، قرأت قصيدة له في جريدة " السفير " ملطوشة بكاملها من قصائدي. وبعد خمسة أشهر، قرأت قصيدة له ملطوشة أيضاً من شعري وقد ذيّلها باسمه وبجانب الاسم قرأت كلمة.. "امستردام".
..